العلاقات الاجتماعية في ظل الأزمة السورية

متى تعود هذه الأيام

يقال عادة “الصديق وقت الضيق” في إشارة إلى أهمية الصديق وضرورة وجوده إلى جانب صديقه ولاسيما في الأوقات الصعبة، لكن يبدو أن “الضيق” الذي تعيشه سورية حالياً أصبح عاملاً أساسياً للتفريق بين عدد كبير ممن تربطهم علاقات الصداقة. وليس ذلك فحسب بل إن تلك الأزمة تسبب في تصدعات داخل الأسر والعائلات السورية وتفرق بين أفراد البيت الواحد. فالروابط الأسرية باتت على المحك وإمتحانات الصداقة تحولت إلى إختبارات لوجهات النظر وسبر لمستوى التوافق إما في التأييد أو في المعارضة مع تعنت شديد ودون أي مرونة في تقبل الآخر.

الأزمة الحالية أو ما أسمته الممرضة نور “بالثورة السورية” عملت على كشف أقنعة كثر من الناس من وجهة نظرها وأظهرت الأشخاص على حقيقتهم: “اليوم وبعد أكثر من سبعة أشهر على بدء الثورة أصبحنا على وعي بمعادن الأشخاص بشكل أكبر وصرنا نعرف تماماً من يقف إلى جانبنا ويريد الإنتصار لثورتنا ومن يهتم بالدرجة الأولى بخدمة أسياده. لذلك من لا يتفق معي بأرائه ومواقفه تجاه ما يحدث أقطع علاقتي به، فالوطن فوق كل اعتبار!”.

ويبدو أن صيغة العيش المشترك التي كان يتسم بها المجتمع السوري أصبحت حالة من الماضي وأضحت الطائفية أكثر توغلاً. يغلب على التعامل في الحياة الإجتماعية هذه الأيام الحذر وأخذ الحيطة، وخصوصاً عند الخوض في أي حديث يتعلق بالأوضاع السياسية. فيتم تجنب ذلك الأمر لحين التأكد أن جميع المجتمعين هم على نفس واحد سواء أكانوا من المعارضين أم من المواليين. وهو ما عبرت عنه الطالبة الجامعية رفيف لافتة إلى أنها أصبحت حذرة جداً في التعامل مع زملائها في الجامعة، وأنها لا تخوض في أي حديث سياسي إلا مع من تعتبرهم أصدقاءها الحقيقيين والذي يماثلونها بالرأي. ومصدر تحفظ رفيف جاء إثر عراك نشب بين مجموعة من الشباب لعدم توافقهم في وجهات النظر مما أسفر عن إقتتال فيما بينهم.

وكما كانت المستجدات التي تعيشها سورية سبباً في فسخ عدد من علاقات الصداقة، فإنها كانت أيضاً سبباً في بناء علاقات جديدة تتوحد فيها وجهات النظر سواء المؤيدة أم المعارضة أو حتى ممن وقفوا وقفة محايد، وهم باتوا بعد مرور نحو سبعة أشهر قلة قليلة ممن يبحثون عن أمثالهم الذين لا يؤثرون مثلهم “وجع الراس” حسب تعبير نوال. أقرت الشابة أن علاقاتها مع صديقاتها المعارضات وحتى المؤيدات أصبحت تتسم بالبرودة والفتور نظراً لأن موقفها المحايد  يضطرها إلى إلتزام الصمت وعدم الخوض في أحاديثهم وهي سعيدة في عثورها على صديقة جديدة تنتهج أسلوب الحياد مثلها.

أما في الحالات التي لم يتطور الوضع عند بعض الأصدقاء إلى قطع علاقاتهم ببعضهم نهائياً، فيتخذ التعامل فيما بينهم صيغة دبلوماسية قد لا تخلو من بعض التوتر أحياناً كالاكتفاء بتبادل التحية عن بعد. وفي حال التواصل المباشر فيكون الحديث عاماً دون الخوض في أي تفاصيل عن الوضع السياسي، لاسيما إذا كان من ضمنهم من ينتمي الى الطائفة العلوية. وتروي انتصار الموظفة في إحدى الوزارات أنه يصعب عليها نسيان مواقف صديقتها العلوية التي لطالما إتصفت بالنبل والأخلاق العالية وتكمل: “ليس بوسعي فجأة نكران جميل صديقتي فهي كثيراً ما كانت تقف بجانبي في حزني وفي فرحي، لكن في الوقت ذاته أراؤنا لا تتفق مطلقاً. لقد وضعت حداً لتلك العلاقة لكن دون أن أبترها كلياً على أمل أن يعود كل شيء إلى ما كان عليه عند انتهاء الأزمة”.

أما حسين وهو مدير لإحدى محلات الألبسة  فيرى أن عدم الخوض في أي حديث يمت للأوضاع بصلة هو بالأمر الصعب نسبياً، فقد أصبح ذلك خبزنا وماؤنا، على حد قوله والتزام الصمت لم يعد بالأمر المجدي. ويتابع حديثه: “قد نضطر إلى تجاهل الأمر إذا كان ثمة أشخاص تختلف معنا بالرأي ولا مجال لجدالها وتحتل مكانة معينة في حياتنا. فوالدي مثلاً مؤيد “للعضم” فيما أنا أرى الأمور بشكل آخر كلياً، إلا أنني أفضل أن أصمت بدلاً من النقاش العقيم معه والذي سيفضي حتماً إلى شجار لا تحمد عقباه”.

ويقودنا رأي الشاب إلى نظرة تأمل بحال الأسرة السورية وإلى استطلاع تأثير الأوضاع الراهنة عليها وعلى تماسكها. ودون أي مجازفة بالقول وجدنا أن ثمة حالات عديدة من عدم التوافق داخل عدد كبير من الأسر. ويفسر لنا المدرّس كريم مرجعية هذا الإختلاف – والذي يبدو للوهلة الاولى بحسب رأيه منطقياً- نظراً لوجود عدد لا بأس به من المستفيدين بطريقة أو بأخرى من النظام. فقد تكون قسائم المازوت أوالوظيفة في إحدى الدوائر الحكومية على سبيل المثال دافع لترديد الشعار “الله سورية بشار وبس”.

لكن في حالات عديدة نرى أن هنالك تأييداً أعمى للنظام وهرمه دون فائدة تذكر. ذلك الأمر الذي يعتبر مصدر الخلاف الرئيسي بين جمال الذي يعمل في ورشة نجارة ووالدته، وهم يقطنان في إحدى مناطق العشوائيات ذات الخدمات المتواضعة. يعلق جمال على موقف أمه بالقول: “تستفزني عبارات أمي المؤيدة كثيراً، فأنا لا أفهم مطلقاً مصدر ذلك الولاء. فنحن لا نجد أنفسنا تابعين للنظام السوري إلا عند دفع فواتير الكهرباء والماء والرسوم والضرائب أما حقوقنا…”.

وإذا خرجنا من نطاق الأسرة الضيق إلى نطاق العائلة نجد أن الأحداث الحالية أثرت بطريقة أو بأخرى على صيغ التواصل العائلي، فعلى سبيل المثال الزيارات العائلية التي يفترض بها أن تكون متبادلة لم تعد كذلك وربما إقتصرت على العوائل التي تتماثل بالرأي فيما بينها تجنباً للمشاكل. ومثالنا هنا أم هاني التي تحدثنا بامتعاض عن زوجها الذي بات يكره الذهاب إلى بيت أهلها فهو وفقاً لرأيها: “لا يتفهم نهائياً وجود من لايتفق مع وجهات نظره ويصعب عليه تقبل الرأي الآخر. وكلما اجتمع مع إخوتي المؤيدين تعلو أصواتهم، مما فرض علي تقليص زياراتي لهم كونه لايسمح لي بالذهاب وحدي خوفاً من أن يقدم إخوتي على تسميم أفكاري وإقناعي بوجهات نظرهم”.

قد لا نبالغ بالقول إن تحدثنا عن شروخ وإنقسامات أصبحت واضحة في النسيج الإجتماعي السوري. وإن قُدر للأزمة السورية أن تنتهي بأقل الخسائر فسيلزم ذلك النسيج شهوراً وربما سنوات ليسترد عافيته.