الشباب السوريون وشبح الخدمة العسكرية الإلزامية

عند حاجز منطقة الفحّامة وسط العاصمة دمشق، تصطف طوابير السيارات كسرب نملٍ بانتظار إشارة الحاجز للعبور. ومع اقتراب الحافلة من الحاجز، يحبس الركّاب أنفاسهم ويُخرجون أوراقهم الثبوتية استعداداً للتفتيش.

يطلب الجندي أوراق الخدمة العسكرية، متفحّصاً إياها، ثم يبدأ بالسؤال عن عمل كل شاب وعن دراسته. أذكر أحد الجنود هو يقول بحقدٍ واستهزاء: “نحن نموت دفاعاً عن الوطن، وأنتم تذهبون إلى الجامعات؟!” ثمَّ أغلق الباب بعنف، في إشارة للسماح بإنطلاق الحافلة إلى حاجزٍ جديد…

هذه الحواجز تقطّع أوصال المدينة، وتنقض على الشبّان المطلوبين للإلتحاق بالخدمة العسكرية، ناهيك عن الحواجز المتنقلة التي تنتشر في أزقة العاصمة بشكل مفاجئ. فلا تعرف في أي لحظة وأنت تتجوّل في شوارع دمشق، يقترب منك عنصر من عناصر الشرطة العسكرية ويسألك عن أوراقك، وإن كنتَ مطلوباً للخدمة الإلزامية أو للإحتياط، يتم سوقك فوراً إلى ساحات القتال.

يقوم الكثير من الشبّان السوريين ببعض الحيَل، لإبعاد شبح الخدمة الإلزامية عنهم. باعتبار أنّ التحاقهم بالخدمة يعني الموت، أو أقله كما يقولون عنها “السفر برلك” (سفر برلك، قصة من قصص التهجير القسري إلى غير رجعة أيام الحكم العثماني لبلاد الشام).

تتنوّع هذه الحيل بحسب وضع كل شاب. فالطلاب الجامعيون، يعمدون إلى تكرار الرسوب في السنوات الدراسية الأخيرة، للحصول على تأجيل دراسي أطول، ما يؤجّل الإلتحاق بالخدمة العسكرية. في حين أنّ الخطوة التالية تكون إمّا بمحاولة التسجيل في الدراسات العليا، أو بالبحث عن جامعة خاصة لدراسة أي فرع جامعي جديد إن كان سن الشاب لا يتجاوز الـ 24 عاماً.

مصعب (26 عاماً) كان قد تخرّج من كلية الإعلام في جامعة دمشق، وكان من المتفوقين خلال كل سنوات دراسته… إلى أن وصل إلى سنة التخرّج، فعزف عن تقديم إحدى المواد خلال عامين متتاليين، كي يكسب التأجيل الدراسي لسنواتٍ أكثر ويقيه ذلك من شبح الإلتحاق بساحات الموت في الخدمة العسكرية.

يقول مصعب: “بعد سنتين، لم يعد بإمكاني الرسوب في الجامعة أكثر من ذلك، فحصلت على الإجازة. ثمَّ تقدمت بطلب لدراسة الماجستير في تخصصي وهو الإعلام، وكما توقعت، لم أحظَ بالموافقة فالأعداد قليلة والمحسوبيات تلعب دوراً كبيراً… كما لم أكن قادراً على دراسة تخصصٍ آخر في الجامعات الخاصة، مع أنّ عمري لم يكن قد تجاوز الـ 24 عاماً، وذلك بسبب تكلفتها الباهظة… ما جعلني مضطراً للإلتحاق بقسم الدراسات العليا في الفنون الشعبية في كلية الآداب، فقط من أجل الهروب من الخدمة الإلزامية”.

من جهة أخرى، تنتشر في دمشق العديد من إعلانات المعاهد التدريسية والجامعات الخاصة، فيُكتب في الإعلان: “يحق للدارسين لدينا الحصول على تأجيل للخدمة العسكرية”.

من هذه المعاهد معهد الست رقية لدراسة العلوم الشرعية، والذي يلتحق به الطلاب ممن لم تسمح لهم درجاتهم بالبكالوريا من دخول جامعة دمشق، أو الطلاب الميسورون الذين يجدون في المعاهد والجامعات الخاصة مهرباً من الجامعة الحكومية.

عماد (19 عاماً) أصبح طالباً في معهد الست رقية، يقول: “أُجبرت على دخول المعهد وأنا غير مقتنع بالتخصص. وقد أُصبحُ مدرِّساً في مجال العلوم الشرعية، ليس لأني أحب ذلك، بل لمجرد الهروب من خدمة الجيش”!

إنَّ امتلاك وثيقة التأجيل تحت أي ذريعة، يمنح الشبّان ورقة مرور إلى خارج الحدود، وبالتالي الهروب إلى خارج البلاد. فعلى أبواب مبنى الهجرة والجوازات في منطقة البرامكة وسط دمشق، يصطف مئات المواطنين يومياً للحصول على الجوازات.

والقسم الأكبر من المنتظرين هم من الشبّان الذين استنفذوا تأجيلهم الدراسي، فيراجعون دائرة الهجرة للحصول على إشعار يقضي بإبعاد شبح القبض عليهم للإلتحاق بالخدمة الإلزامية لمدة ستة أشهر، أي ما يسمّى بـ “مهلة السفر”. وبالمقابل عليهم خلال هذه المهلة مغادرة سوريا، وإلا سيتم الزج بهم في ساحات القتال.

أمّا الشبّان الذين استنفذوا فرص التأجيل، فقد يلجأون إلى ما بات يُعرف بسماسرة الخدمة الإلزامية للحصول على إشعار مهلة السفر. والسماسرة أشخاص لهم علاقات مع ضبّاط من الهجرة والجوازات، يطلبون مبالغاً ضخمة لتزوير السجلات وإعطاء المراجعين الإشعار.

عماد (26 عاماً) واحد ممن لجأوا لهؤلاء السماسرة. فقد تخرّج عماد من كلية التربية في العام الماضي، مستنفذاً كل فرص التأجيل… لم يعد باستطاعته الخروج من باب المنزل خوفاً من إلقاء القبض عليه في شوارع العاصمة وسوقه إلى الخدمة العسكرية. وكان حين يضطر للخروج، يستخدم البطاقة الشخصية الخاصة بأخيه.

يقول عماد: “دفعت مبلغ نصف مليون ليرة سورية (ما يعادل 1000 دولار أميركي) لمعقّب معاملات في دائرة الهجرة والجوازات كي أحصل على تأجيل مهلة سفر، فرصتي الوحيدة لأبقى على قيد الحياة. وحين أحصل على هذه المهلة، سأسعى للسفر إلى لبنان”.

في حين أنّ العديد من الأشخاص الذين لا يسعفهم الحظ بالحصول على أوراق التأجيل، يلجأون فوراً إلى المهربين لمغادرة البلاد. وعادةً يكون المهربون، أشخاص لهم صلات بعدد من الأجهزة الأمنية أو ضباط يقومون بتهريب الشبّان مقابل الحصول على مبالغ ضخمة.

جمال (26 عاماً) مقيم حالياً في بيروت، يتحدّث عن طريقة تهريبه من سوريا، كي لا يلتحق بالخدمة العسكرية، فيقول: “تواصلت مع أحد المهربين عن طريق وسيط وطلب من

أحد شوارع حي القشلة داخل حارات دمشق القديمة
أحد شوارع حي القشلة داخل حارات دمشق القديمة

ي مبلغ 1200 دولاراً لإيصالي إلى لبنان، في حين أن إيجار الراكب الواحد بالعادة هو 20 دولاراً فقط! لكنّي وافقت، فلم يكن أمامي سوى هذا الخيار”.

يضيف جمال: “اتفقت مع المهرِّب على موعد محدّد للمغادرة، حيث يتم إيصالي للحدود اللبنانية وهناك أدفع المبلغ كاملاً. وفي صباح اليوم المتفق عليه، أتت سيارة دفع رباعي، خرجتُ فيها، واكتشف أنَّها تابعة لعناصر من حزب الله… وكنّا نمُر على جميع الحواجز دون أي تفتيش. وبعد حوالي الساعتين، وصلت إلى الحدود اللبنانية لأدخل بعدها إلى لبنان”.

في المقابل، هناك بعض الشبّان في دمشق، لا يفضّلون خيار مغادرة سوريا، بسبب مشقة الغربة والإبتعاد عن الأهل… فيقومون، وبدفع من أهاليهم، بحيازة بطاقات أمنية وعسكرية تابعة لميليشيات مساندة للنظام. باعتبار أنَّ تلك البطاقات التي لم تعد حكراً على قوات الأمن والشبيحة فقط، بل باتت سلعة تُباع وتُشترى من كبار ضباط الأمن والميليشيات واللجان الشعبية.

وفي العلن تصبح منتسباً إلى هذه الميليشيات، وأبرزها كتائب الدفاع الوطني أو ميليشيا الزوبعة التابعة للحزب القومي السوري الاجتماعي… لكن في الحقيقة، فإنكَ تشتري بطاقة انتساب شكلية تسمح لك بالمرور على الحواجز دون أي تفتيش.

محمد (23 عاماً) يعيش في حي الميدان في دمشق، قام بشراء بطاقة انتساب إلى ميليشيا الدفاع الوطني، يقول: “أُجبرت على القيام بهذه الخطوة بعدما أُغلقت أمامي جميع الطرق الأٌخرى… فقمت بالإنتساب الشكلي بشراء بطاقة إنتساب مقابل 100 ألف ليرة سورية (حوالي 200 دولار أميركي)”. ولا يقتصر الموضوع على ذلك المبلغ فقط، فيقول محمد أنَّ قائد المجموعة التي انتسب إليها، يتقاضى الراتب الخاص بمحمد، والذي يبلغ 40 ألف ليرة سورية شهرياً (حوالي 80 دولاراً). كل تلك الأموال مقابل عدم التحاق محمد بالخدمة العسكرية، والتجول في شوارع العاصمة بإبراز بطاقة الدفاع الوطني.

هذه الحالات تؤكِّد أنَّ الخدمة العسكرية في سوريا، هي شبح حقيقي يلاحق الشبّان السوريين، وخاصة الطلاب الجامعيين الذين قد يغادرون سوريا إلى غير رجعة، مع أنهم يحملون كفاءات عالية… ويبقى الشبّان الآخرون، بين ساعٍ للهرب، وباقٍ على مضض، أو مقاتل مع النظام، أو معانٍ من اليأس، أو منشق ومقاتل على جبهة أخرى… وغيرها من الفرضيات، التي قد تكون أفضل باختلاف حالة الشاب، لكنَّ النتيجة واحدة: هل هذا هو المستقبل الذي كان الشباب السوريون يرسمونه لأنفسهم؟