الدحل لعبة قديمة عادت مع الحرب
لعبة الحفرة حيث يتبارى الصبية بالدحل تصوير نايف البيوش
"الصبية يحفرون حفرة صغيرة، ثم يرسمون خطاً يقفون خلفه، يبعد بمسافة تختلف حسب مهارات اللاعبين الذين يتجاوز عددهم غالبا الثلاثة، وكل من يدخل كرته الزجاجية في الحفرة يحق له بواسطتها ضرب كرة غيره من الفريق، يحق له بواسطتها ضرب كرة غيره من الفريق، "
يقضي الطفل عصام (12عاماً) معظم وقته في لعب الدحل (الكرات الزجاجية) أو ما يسمى الجلول. تتعالى الصيحات والهتافات تشجيعا للفائز، ويقول عصام مبتهجا “لقد كانت المنافسة شديدة اليوم ولكنني أنا من ربحت العدد الأكبر من الدحاحل”.
انتشرت لعبة الدحل بين الأطفال بشكل كبير هذا العام في ريف إدلب، وذلك جراء القصف المتواصل الذي طال المدارس والمراكز التعليمية. وجد الأطفال في هذه اللعبة ضالتهم، وخاصة وأن أوقات فراغهم باتت أكبر تزامنا مع انعدام وجود حدائق أو ملاعب تغني أطفال المنطقة عن اللعبة التي راحوا يمارسونها على أطراف الشوارع وفي الأزقة وبين البيوت.
يقول عصام “أنا أحب لعبة الدحل وتعلمتها من رفاقي في الحي، وهي تقوم على عدة طرائق للعب ومنها والتي أفضلها الحفرة”. الصبية يحفرون حفرة صغيرة، ثم يرسمون خطاً يقفون خلفه، يبعد بمسافة تختلف حسب مهارات اللاعبين الذين يتجاوز عددهم غالبا الثلاثة، وكل من يدخل كرته الزجاجية في الحفرة يحق له بواسطتها ضرب كرة غيره من الفريق، الموجودة خلف الخط. أما إذا تجاوزت الخط فينسحب صاحبها من اللعبة التي تصبح ملكا لمن تمكن من إخراجها.
ويتحدث عصام عن لعبة الدائرة وفيها يضع اللاعبون نفس العدد من الكرات الزجاجية في دائرة صغيرة، ثم يرمون الكرة التي يلعبون بها في اتجاه الخط، ويكون حق بداية اللعب من نصيب من كانت كرته أقرب الى الخط، ثم الذي يليه حتى آخر لاعب، ويوضح بأن هدف الجميع يكون إصابة أكبر عدد ممكن من الكرات الزجاجية وإخراجها من الدائرة لكي تصبح ملكا لهم، وأكثر ما يسعد عصام هو “صوت الكرات القوي حين تصيب بعضها، فهي تدل على قوة اللاعب وبأسه”.
“تعتبر لعبة الدحل إحدى أهم الألعاب القديمة التي سبقت ألعاب الكمبيوتر والإلكترونيات، فقد كانت “تجذبني مع الكثيرين حيث نجتمع حول حفرة الدحل لننعم بدفئ الشمس في فصل الشتاء مع بعض التسلية والحماس إثر المنافسة الشديدة بيننا” يقول الأربعيني أبو محمد.
ويضيف أبو محمد “هذه اللعبة لم تكن عائقا أمام دراسة الأطفال الذين كانوا يقصدونها بعد الإنتهاء من واجباتهم الدراسية” وهي بالنسبة لأبو محمد أفضل بكثير من الألعاب الإلكترونية الحالية التي تقلل من حركة الطفل وذكائه، عدا عن تأثيرها السلبي على عينيه وصحته.
عن لعبة الدحل وتاريخها تتحدث المجازة في التاريخ هدى كليب (35عاما ) فتقول لحكايات سوريا: “عرف الإنسان القديم الكرات الزجاجية (الدواحل) قبل أكثر من خمسة آلاف سنة. لكنه لم يصنعها من أجل تسلية الأطفال إنما كانت لها وظائف دينية في عصر الفراعنة في مصر. ولا يمتلكها سوى رجال المعابد من كهنة وعرافين، وهي مع الزمن انتقلت وظيفتها من العرافة الى لعبة للأطفال”.
وتضيف كليب “أن هذه الكرات تميزت في عصر الفراعنة بأنواعها المختلفة من حيث مادة الصنع، وكانت كل مادة تدل على طبقة من طبقات المجتمع. وتعطي كليب مثالا من الحاضر من خلال التمييز بين الكرات المصنوعة من الأحجار الكريمة التي يفاخر بها الصبية الميسورين، بينما أطفال الطبقة المتوسطة والفقيرة كراتهم مصنوعة من الزجاج”.
المعلم صفوان اليوسفي(38عاماً) يشعر بالأسف عندما يرى تجمع الأطفال حول لعبة الدحل وبرأيه “كان من الأفضل أن يجتمع الأطفال للتعلم في المدارس أو حلقات التعليم أو دورات اللغات، سيكون ذلك أجدى من إضاعة الوقت بلعب الدحل، فنحن بحاجة لجيل متعلم ومثقف وقادر على بناء وطن أنهكته الحرب بكل المعايير”.
غير أن المعلم اليوسفي لايضع اللوم على أحد في انتشار هذه الظاهرة سوى الحرب التي ضيعت مستقبل جيل كامل أصبح عرضة للجهل والأمية.
لم يكن عمر إبن العشر سنوات ليمارس هذه اللعبة بذلك الزخم لولا أن أغلقت المدارس أبوابها باكراً هذا العام وبدء العطلة الصيفية. ويقول عمر مؤكدا “صحيح أن الدراسة تراجعت في الآونة الأخيرة ولكنني كنت لا أتوانى عن الدراسة في المنزل بمساعدة والدتي، وبعد تقديم امتحانات هذا العام رحت ألعب الدحل مع أبناء الحي بهدف التسلية والمتعة”. عمر يشعر بمتعة وحماس كبيرين أثناء لعبه بالدحل، فمن خلال هذه اللعبة صار لديه العديد من الأصدقاء.
ولا يغيب عن عمر الإشارة إلى الحالة التي دفعت الأولاد إلى لعبة الدحل. ويقول عمر “نحن نعاني من انقطاع الكهرباء منذ أكثر من أربعة أعوام، فلا نستطيع مشاهدة التلفاز أو اللعب على الكمبيوتر إلا ساعتين في اليوم. عندما نحظى بكهرباء الاشتراك بمولدة المجلس المحلي”.
أحمد البيوش (30عاماً) الحائز على اجازة في علم الإجتماع لا يجد ضيرا من لعب الأطفال بالدحل، بل على العكس حيث يقول لحكايات سوريا “إن اللعب يستهوي الصغار والكبار على حد سواء، فالنفس بطبعها تمل مما هي فيه فتهرب منه لتكسر رتابة الجد وشدته وتبعد آثاره الثقيلة عنها”.
ويردف البيوش مبتسما “أن في اللعب لذة التنافس وإحراز النصر والغلبة على الخصم وذلك مايعزز المشاعر الذاتية بالتفوق والتميز. وهي مشاعر تعكس أهمية الإنسان في محيطه وتزيد تقديره لنفسه ولغيره، كما وتنمي القدرة على قيادة الأفراد مما يزيد الثقة بالنفس ويوجهها لتحقيق أحلام المستقبل بالنجاح والتفوق في العمل.
من جهة أخرى تنتقد أم علاء الأربعينة تجمع الأطفال بين المنازل وصراخهم وضجيجهم الذي يزعج الجيران. وتلقي أم علاء باللوم على المجلس المحلي الذي لم يعط أهمية خاصة للعب الأطفال. وتسأل “لماذا لا يفكر المجلس المحلي بإنشاء حديقة خاصة للأطفال؟ فلتكن حديقة ملاهي أو حديقة عامة وبهذا الشكل يجتمع الأطفال ويلعبون ويلهون بحرية، فلا يخاف عليهم الأهالي من الشوارع والسيارات، ولا يزعجون الجيران وأهالي الحي بضجيجهم المتواصل”.
أبو محمد (43عاما ) أحد أعضاء المجلس المحلي في كفرنبل يقول “هناك ما هو هام وهناك ما هو أهم، نحن نوجه عملنا باتجاهات عدة وكلها تصب في مصلحة وخدمة المواطن بدءاً بالإغاثة وانتهاءً بإصلاح شبكات المياه والكهرباء والبنى التحتية”. أما الملاهي والحدائق العامة فهي أمور كمالية بالنسبة لأبو محمد ولا تتناسب مع حالة الحرب التي تعيشها البلاد.
أسامة العبيدو(14عاماً) أحد الأطفال المولعين بلعبة الدحل. يسعى العبيدو مع رفاقه دائماً لتغيير مكان لعبهم حتى لا يسأم منهم الأهالي. ولكنه أبداً لم يفكر بترك هذه اللعبة التي توفر له جانبا من المرح والمتعة والأجواء الجماعية بعيداً عن كل مايعيشونه من ظروف صعبة قوامها حرب وعنف وتهجير.