الحفاة… الحذاء الوحيد لأبناء تلكلخ

A Syrian woman cries as she arrives in Wadi Khaled in northern Lebanon, near the Lebanese-Syrian border, May 15, 2011. Syria's main Kurdish parties said the authorities must take concrete steps to end repression and transform Syria into a democracy to solve the nation's political crisis, joining mainstream opposition demand. REUTERS/Omar Ibrahim (LEBANON - Tags: POLITICS SOCIETY CIVIL UNREST)

هّم الاولاد ومصيرهم!

قد تكون اصوات الرصاص أو أصوات المدرعات المزعجة، أو حتى منظر الجيش المتنافر مع الطبيعة، هي أبرز الأسباب التي دفعت أهالي تلكلخ للنزوح عن أراضيهم في أوائل أيار 2011، فمنهم من تسلق الجبال، ومنهم من خاض غمار  النهر. ولكن القاسم المشترك بينهم جميعاً، أنهم كلهم هربوا حفاة الأقدام، لا يولون على شيء، خوفاً من القصف العشوائي.

بالنهاية، القصف ليس إسرائيلياً، وإنما مصدره الجيش السوري الذي يستكمل حملته للقضاء على السلفيين الموجودين في تلكلخ، حسب زعم الإعلام السوري الذي يردّد ما يلقنّه اياه النظام السوري.

أم غسان، سبعينية العمر، لها من الأولاد ستة، ثلاثة منهم يقبعون في سجون الأمن السوري منذ ثلاث سنوات، ولم يخرجوا حتى الآن. تهمتهم أنهم تفوّهوا بعبارات تضعف من عزيمة الأمة، واثنان آخران سقطا شهيدين أمام عينيها، حين طالبا ـ كما الشعب السوري كله، طالب ـ بإخراج المعتقلين من السجون الأمنية وإعطاء الشعب السوري حريته، ليبقى الثالث الذي حمل هموم العائلة على كتفيه، ثم رحل مع الراحلين الى حيث، لا نظام يشبه نظام الأسد في هذا العالم.

أم غسان، وبعد أن هدّمت منزلها دبابة أخطأت في سيرها، انطلقت تسير مع الكثيرين الذين عفرّهم التراب، وتكبلت ايديهم من انقاذ الجثث الملقاة في نهرعلى الطريق. خرجت أم غسان من منزلها المتعب من دكّ نيران المدّرعات، تستر  جسدها خرق النوم، هذا النوم الذي جافاها منذ أن ارتحل أبناؤها الثلاثة ولا تعرف أين هم، ولا ما هو مصيرهم!

لم تسأل أم غسان عمّن غادر البلاد ليعمل، اذ يبقى الجلاد الغريب رحيماً بنظرنا، أمام القريب الذي يطأ قلوبنا ويسلبنا كل حقوقنا، فكرت “ماذا أفعل؟ أأترك أولادي نائمين على الطرقات تغطّيهم دماؤهم؟ أأترك قريتي التي كبرت من حليب نسائها؟!، أأترك اولادي مغرّبين في ظلمات لا أعرف لهم قرارا”؟!

وسبقتها آهات النساء اللواتي صرخن بها، “أن تعالي معنا، وسنعود، سنعود عندما يصبح الرجال رجالاً يخافون علينا ويدافعون عنا”.

وبكت أم غسان وسارت ودموعها تشدّها إلى الوراء، أولاد القرية، أمامها، يسيرون كقطيع غنم مشّتت، مرتجف، ضائع، لا يولي على اتجاه محدد، وقد أصبحت  هي وبعد سبعين عاماً مسؤولةً عنهم. الصغير يضحك والكبير يبكي، والرضيع ينتظر الثدي الذي سيشبعه، ولا مجال للطّعام. والرحلة من تلكلخ إلى وادي خالد سيقطعها الجميع مشياً أو زحفاً لا فرق، فذلك أفضل من القتل بأيدي سوري لا يعرف على من يطلق النار، وإن عرف، فإنّ اللعبة التي يحملها الطفل بين يديه تتحول إلى قنبلة بالنسبة إلى عناصر الأمن المصاحبين للجيش.

تستبدّالطرقات الوعرة بأقدام الهاربين من بطش جيش الأسد، فيصطدمون بالحجارة والصخور التي عقدت اتفاقاً مع النظام السوري، فلا الطريق سهلة، ولا البوصلة التي تقودهم تعمل، والشيء الوحيد الذي يعرفونه نساءً واطفالاً أنهم يجب أن يختفوا عن الأنظار قبل أن يختفوا عن الدنيا كلها.

زحفوا باتجاه الجنوب، نحو الحدود اللبنانية الشمالية التي تبعد حوالي الساعة والنصف سيراً، ولكنّها تراءت لهم بعيدة جداً. ففي الزمن الطيّب، كان الطريق نزهة وزيارة للأقارب والعائلة في الطرف اللبناني، لما تتميز به هذه المناطق من صلات عائلية فيما بينها. أمّا الآن فتبدو الطريق وعرة تستعصي على الماعز، لكنها لا تستعصي على الخائف من بطش الأخ والصديق والابن.

المياه التي تجري في النهر، هدأت استرضاءً للأم الثكلى والابن الجائع، والأشجار المتباعدة تعانقت فيما بينها لتبرد النار التي تشتعل في أحشاء الهاربين.

تلكلخ التي أصبحت منذ الخامس عشر من نيسان ثكلى بعشرات الشهداء ومئات الجرحى يفترشون الطرقات بأجسادهم. لا بشر يدفنهم، ولا إسعاف ينقذهم، وإنما حديد تم شراؤه على مدى خمسين عاماً ليستعمله جيش الأسد على أجساد الشعب السوري الذي نادى بالحريّة، ونادى بانتهاء خمسين عاماً من حكم حزب البعث والعائلة المالكة.

لم تختلف الطرقات أمام أم غسان والعشرات من النساء اللواتي تحزّمن بأولادهن الصغار، وودّعن الزوج والشباب ليقولوا في النهاية: هذا مصيرنا ومصير كل إنسان سوري أراد في لحظة أن ينادي بالوطن الحر.

أم غسان لم تدخل مدرسة في حياتها، لكن الطريق الذي قطعته مع باقي النسوة علّمها أن الهرب من أيدي الأمن السوري هو خير وسيلة لفضح جرائمه، وأنّ كشف وجهها أمام كاميرا أي تلفزيون، أومجرّد لقاء مع صحفي انّما هو السبيل لإعادة ابنائها المختفين هناك في ظلمة السجون الأمنية.

الطريق الذي امتدّ طوال 180 دقيقة اختصر عشرات السنين التي مرّت على هذه الأرض، وكلّ الهواجس والأحلام التي وحّدت فيما مضى عائلة، تشتّتت الآن بسبب كلمة اصبحت تهمة في يد الجلاد وقنبلة في وجهه تهدد أمنه.

وضعت أم غسان أحمالها في أحضان أقاربها، لكن الصورة بقيت عالقة في ذاكرتها: شوارع متعبة من الأجساد المحمولة عليها، ومن دبابات وطئتها، لا لتحريرها من غاصب أو معتدي وإنما لكمّ أفواه أبنائها. واذا بتنهيدة أخيرة منها، كانت هي النهاية التي لن تشهد نهايتها أبداً.