التنقيب على الآثار في سوريا… بين السرقة والتجارة!
مركز آثار ادلب
بين ليلة وضحاها إنقلب وضع أبو وائل (42 عاماً) من فقير بائس إلى غنيّ ميسور. وذلك بعد أن عثر أبناؤه على أحد الكنوز الأثرية في قرية خربة حاس التابعة لريف إدلب الجنوبي. أبو وائل من قرية الدير الشرقي في معرة النعمان، واحد ممن اتخذوا من التنقيب على الآثار مهنة أساسية خلال الحرب، عبر البحث عن قطع معدنية أو تماثيل.
ويستغل المنقّبون ما تمر به البلاد من حرب وخراب وفوضى، يترافق مع غياب الرادع الأمني. حيث باتت المواقع الأثرية في ريف إدلب مسرحاً للتنقيب العشوائي غير المشروع، خاصة وأنها من أكثر المناطق الغنية بالآثار في سوريا.
يقول أبو وائل: “بدأت رحلة البحث عن الآثار بعد تحرير ريف المعرة الشرقي من حواجز النظام في أواخر العام 2014… ومنذ ذلك التاريخ ونحن ننطلق من الصباح الباكر وحتى المساء، للبحث عمّا يمكن أن نجده في المناطق الأثرية”. ويُضيف: “لم أكن لأتخذ من التنقيب عن الآثار مهنة لولا فقر الحال وفقداني لمتجري الصغير، الذي كان مصدر رزقي الوحيد، لكنه تهدَّم بفعل القصف الهمجي على قريتي”.
أبو وائل يسرد قصة ثرائه المفاجئ بصوت منخفض، ويقول بأنه وكعادته في صباح أحد الأيام، خرج مستعيناً بجهاز رنّان لكشف المعادن… بينما منح آخراً لولديه محمد (16 عاماً) وعلي (12 عاماً) ، اللذين ذهبا في اتجاه آخر، وتحديداً خربة حاس. “ولحسن الحظ” يقول أبو وائل، وأثناء بحث ولديه، رنَّ جهازهما في مكان قريب من الموقع، وبدآ بالحفر بواسطة معول ومجرفة… وكانت المفاجأة عثورهما على جرة فخّارية ممتلئة بالليرات الذهبية، واتضحَ أنها تعود للعصر الروماني بعد الكشف عنها لاحقاً.
ويُكمل أبو وائل: “قمت بنقل الجرة بسرية تامة إلى المنزل، لأقوم ببيعها لأحد تجّار الآثار في ما بعد بمبلغ كبير جداً”. يتحفّظ أبو وائل عن ذكر المبلغ، ويؤكّد أنّ أوضاعه باتت ممتازة بعد أن اشترى منزلاً ومحلاً تجارياً، وقام بتسديد جميع ديونه بما فيها ثمن أجهزة التنقيب التي يقدّر ثمنها بمليون ليرة سورية (حوالي 2000 دولار).
لا يوجد أرقام مؤكّدة عن حجم المسروقات من الآثار في المناطق السورية خلال الحرب، وذلك بسبب طبيعة مهنة تجارة الآثار التي تُحاط بالسرية، وبسبب حالة الفوضى التي تعم البلاد. إلاّ أنَّ حركة بيع الآثار السورية تنشط في تركيا، عن طريق أشخاص يشكّلون صلة وصل بين البائع والشاري، بحسب ما ذكرَ لنا أبو وائل.
إبراهيم (25 عاماً)، عملَ بالتنقيب على الأثار أيضاً، وتحوّل وضعه من شاب أوقفَ دراسته في الجامعة بسبب فقره وبسبب الأوضاع الأمنية، إلى أحد الأثرياء الذين يملكون العقارات والأراضي والسيارات.
عثرَ إبراهيم على تمثال ذهبي أثناء التنقيب، وقام ببيعه بآلاف الدولارات بحسب زوجة أخيه مها (28 عاماً). إبراهيم لم يذكر لمها مكان إيجاد التمثال، إلا أنها تقول أنَّ مناطق ريف إدلب كقرى شنشراح، سرجيلا، تل مرديخ، تل حزارين وغيرها، هي أماكن يتم التنقيب فيها.
إيجاد البعض للتحف الأثرية دفع بالكثيرين ومن بينهم الأطفال، لأن يجوبوا الوديان ويصعدوا التلال بحثاً عن الآثار من مختلف الأنواع، حيث أصبح هذا العمل مصدرَ دخلٍ للبعضِ منهم.
أحمد إبن العشر سنوات ينطلق بعد انصرافه من المدرسة للبحث عن الأثار المدفونة، ويقول: “لأنني أعيش في منطقة قريبة من آثار البارة في إدلب، فأنا أخرج باحثاً عن اللقى (أي الأثار) أملاً بأن أجد شيئاً يساعدني أن أشتري ما أحتاجه أنا وإخوتي”. وبذلك فإنَّ الأثار ليست فقط مبتغاً للغنى الفاحش، بل أيضاً لسد الرمق بحسب أحلام أحمد المتواضعة!
وكذلك هناك مَن يبحث عن الآثار، ولم يجد شيئاً حتى الآن، لكن لم يستسلم. عامر (20 عاماً) يقول: “في السابق كان هناك خوف من التنقيب لوجود قوانين صارمة، أمّا اليوم فلا يوجد أي رادع أمني وكثيرون يبحثون عن الآثار… وأنا سأستمر في بحثي”.
في المقابل، يحذّر سليمان العلي (28 عاماً) خرّيج قسم آثار في جامعة حلب، من الضرر الجسيم الذي يُلحقه المنقبون بشكل عشوائي بالمواقع الأثرية… ويتجلّى هذا الضرر في تخريب سويّات أثرية لمواقع تاريخية في غاية الأهمية. كما ينتقد العلي المحاكم الشرعية في المناطق المحررة لكونها لم تعمل حتى الآن على استحداث قانون خاص بحماية الآثار والممتلكات الأثرية. ويقول: “هناك ضرورة لمعاقبة الجناة والسارقين للآثار، فهذه الأثار ملكٌ للوطن وليست ملكاً لمن يشتريها بأغلى الأثمان في الدول الأوروبية”.
سليمان العلي لا يحمّل الناس البسطاء وحدهم المسؤولية في ضياع وتخريب وسرقة الآثار، إنما يحمّل أيضاً النظام السوري مسؤولية ذلك، فيقول: “قام جنود النظام بتحويل متحف معرة النعمان الأثري لثكنة عسكرية لمدة ثلاث سنوات قبل تحرير المدينة من قبل الثوار في أواخر العام 2014”. ويضيف: “تلك المدة كانت كفيلة بقيام الضبّاط والجنود بسرقة معظم القطع الأثرية الموجودة في المتحف، وبيعها لتجّار الآثار تحت حماية ومرأى النظام”. ويشير إلى أنَّ متحف معرة النعمان كان في يوم من الأيام يحوي على أهم التحف واللوحات الفنية القديمة، لكنه اليوم باتَ خالياً!
وكان قد أسسَ عدد من الشبّان الناشطين مركزاً لحماية الآثار في محافظة إدلب في العام 2012، تحتَ إسم مركز آثار إدلب الحرة، ويضم عدداً من الأكاديميين والمختصين بعلم الآثار، بالإضافة لمهندسين وقانونيين.
ويقول أيمن النابو مدير المركز: “يعمل مركزنا بهدف حماية الآثار وحفظها وتوثيقها وترميمها. واستطاع الحصول على دعم بعض الفصائل المقاتلة والشرطة الحرة التابعة للجيش والمحاكم الشرعية، ومهمتهم ملاحقة لصوص الآثار والمعتدين عليها في مناطق عدّة من إدلب وريفها”.
ويضيف النابو: “نحن نسعى جاهدين لإنشاء المزيد من هذه المراكز في المناطق السورية وليس في محافظة إدلب وحدها، فسوريا وآثارها باقون وسنبقى رمزاً للحضارة… إلا أنَّ عملنا يحتاج لجهود الجميع، فنحنُ ليس لدينا القدرة على ملاحقة الجناة الذين يعملون بسرية”.
بين الفصائل المقاتلة والشرطة الحرة والمحاكم الشرعية ومركز آثار إدلب الحرة، وبين المنقبين على الآثار… بين فوضى الحرب، وليلٌ حالك وسرية تنقيب… كيف تتوحّد الجهود فعلاً لإيقاف سرقة الآثار؟ تجارة تعود بالملايين لأفراد محدَّدين، وسط مَن يموتون من الجوع… وتضيع أثار سوريا في المتاحف في الخارج!