التحقيق وفق المعايير الدولية… فقط في سورية

خرجت من باب القصر العدلي غير مصدقة أنها انتهت من هذا الكابوس، حنان بنت الثلاثين ربيعاً خرجت بصك البراءة الذي منحه إياها القاضي، لم تصدق ما جرى حتى أنها قرصت نفسها لتتأكد أنها لا تحلم.

المظاهرة النسائية في دمشق

قبل أربعة أيام اتصلت صديقتها وأخبرتها أنهم سيسيرون بمسيرة احتجاج ضد القتل والعنف الذي يمارسه الأمن والجيش السوري في محافظة درعا وحمص وبانياس وسقوط عشرات الشهداء بأيدي أخوانهم، ووافقت من فورها لعلمها ان المجتمع السوري يحترم المرأة ولا يحاول تدنيس قدسيتها.

وفي عصر يوم 30 نيسان /أبريل خرجت حنان برفقة خمسون إمرأة بمسيرة صامتة رافعات لوحات كتب على أغلبها “لا للقتل، نعم للعدالة” وغيرها من اللافتات التي تؤكد كلها على سلمية المسيرة، وانطلقت من أمام مجلس الشعب “البرلمان السوري” متجهة إلى شارع الحمراء المحاذي للمجلس، لتستقر في ساحة عرنوس ـ امتداد شارع الحمراء ـ ولتبدأ المسيرة بمحاولة التفرق، خاصة وأن رجال الأمن بدوؤ يحومون حولهن حوم النمر على فريسته، وفجأة انقضوا عليهم، الكثيرات هربن لم يحاول أحد إيقافهن، لكن حنان وبعض النسوة تم التقاطهن، ومحاولة وضعهن في إحدى سيارات الأمن المعروفة، لكنهم رفضن وبإصرار فأوقف رجال الأمن أحد وسائط النقل الجماعي وأفرغ ما فيه من ركاب بحركة تؤكد السلطة العليا لهذا الجهاز بهذا البلد، وتم تحميل 11 إمراة وشابان.

حنان تقول أنها لم تتعرض لأي أذى، ولم يحاول أي شخص الاقتراب منها ومحاولة التحرش او الضرب أو حتى السباب، وهذا عكس المتوقع بما يسمع به الشارع السوري، لكن الشابان تعرضا لكل أنواع الضرب وبكافة الأطراف، فعدا عن الصفع هناك الرفس واللكم مترافقاً مع الشتم والسبّ وكأن هذه التصرفات تهين عزيمة من يقول في هذا البلد “لا” حسب قول حنان.

لا للقتل، نعم للعدالة

وأشد ما آلمها أنها رأت قدم أحد رجال الأمن موضوعة فوق رأس أحد الشباب، فقالت له “حرام عليك ماذا فعل لتهينه هكذا” ليجيبها رجل الأمن بكل عنجهية، “هذا ما يستحقه الخونة”.

الخيانة الكلمة الأكبر والاكثر استعملاً في هذه الاثناء في سورية، فمن ليس مع السلطة فهو خائن، ومن يشاهد القنوات العربية والأجنبية فهو خائن، ومن يتكلم عما يجري ويصفه بأنه احتجاج عادل فهو خائن، ومن، ومن… الكل خونة، عدا زبانية النظام وإعلامه الوطني جداً.

وصلوا إلى شارع بغداد وسط دمشق، وهناك حيث المنطقة معروفة باستيطان أحد فروع الأمن التي عاثت في الأرض فساداً منذ عهد بهجت سليمان وحتى الآن، وتم إنزالهم، السيدات للزنزانة، والشابان للتحقيق الفوري معهم مع بعض الصفعات والرفسات واللكمات مترافقة مع الشتام والسباب طبعاً.

في الزنزانة لم تجد حنان ما تقوله، وإنما خطر السؤال في خاطرها فجأة، فهل من المعقول أن من يطالب بالعدالة يصبح في السجن؟ فكان الجواب من امرأة أخرى لم ترها قبل الآن، مع بكاء حار وانتحابة “ماذا فعلنا نحن حتى تصبح النهاية هكذا”.

لتطرح سؤال أخر، ماذا سيحل بنا؟، وكم سنجلس هنا؟، وماذا سيسألوننا؟، والعديد من الاسئلة بدأ الجميع يطرحها قبل حتى ان يتيقنوا من المكان الذي هم فيه.

الزنزانة موحشة كما يعرفها البعض وكما شاهدها البعض في الأفلام العربية والأجنبية، لكن في ذلك المساء كانت بالنسبة لحنان شهادة تعتز بها، فتذكرت بيت الشعر “يا ظلام السجن خيم إننا نهوى الظلام. ليس بعد الليل إلا فجر مجد يتسامى” قد يكون من أهم بيوت الشعر بالنسبة لها في هذه الأحوال، خاصة وأن الأرض التي افترشوها لا تحوي غير البلاط، والغطاء هواء الزنزانة الممزوج برائحة النشادر…

ومر الليل طويلاً كما هو متوقع على السجينات دون أن يطلب منهم أحد أي أمر، أو يسألهم أي سؤال، ليقرع باب السجن صباح اليوم التالي، وكانت المفاجئة، أنه يقرع بأدب جم غير معتادات عليه من قبل الأمن السوري، ويسأل الحارس إن كن يطلبن أي أمر، فكان جوابهن أن بعض النساء من المسلمات يردن أن يصلين، فيما طلبت البقية بعض الطعام، وبالفعل تم تنفيذ الطلب…

وأتى المحقق، شاب في بداية الثلاثينيات، برتبة نقيب على الأرجح، نظر إليهن، وطلب من حنان أن تقول له ماذا كانت تفعل في ذلك الوقت وفي هذا المكان. فكان ردها أنها أتت إلى هنا لنبذ العنف في كافة مناطق سورية، لكن النقيب قال لها بل أنت كنت تمرين بالسوق ووقف لتشاهدي ما يحصل وظننت أن المسيرة مرخصة فمشيت بها.

لكنها أعادت عليه ما حصل، وأعاد هو من جهته ما قال، وانتهى الحديث بقوله “غداً عند القاضي تقولين ذلك، لأن التظاهر غير مسموح أبداً”.

وانتهى التحقيق بالنسبة لها، وهي متفاجئة من هذا التحول، فهل هي في فرع من أفرع الأمن السوري فعلاً؟ وهل هذا الشاب الرقيق الجسد ضابط أمن يرهب الملايين من شبابنا؟، وهل بهذه الطريقة تحل كافة الأمور؟ إن كان كذلك فهذه مصيبة.

واستمر النهار كذلك حتى تم التحقيق مع كافة النساء وبذات الطريقة، وطلب منهم رجال الأمن حينما السؤال عما حصل لهن أن يقلن أن التعامل معهن كان جيد بكل المقاييس ولم يحاول أحد أن يتعرض لهن، بل كل ما أردنه أتى، والتحقيق كان حضاري بكل المعايير.

ضحكت حنان من كل ذلك، فالمرأة في سوريا تعد من أهم الأسباب التي يسفك لها الدماء، وهم خائفون إن تعروضوا لنا أن تزيد من نار المظاهرات التي يقوم بها الأحرار.

“ونمنا ليلتنا الثانية وطبعاً لم نسمع عن الشابان اللذان تم اعتقالهما أي خبر” قالت حنان، “وإنما رحلّنا رجال الأمن في اليوم الثالث إلى قصر العدل في الثامنة والنصف صباحاً لنمثل أمام قاضي التحقيق. وبعد أربعة ساعات أتى دوري. وتكررت الأقوال التي رددها الشاب. بأني كنت أسير في الطريق وظننت أن التظاهرة مرخصة فمشيت معهم وأخذني بعد ذلك رجال الأمن. والقاضي يؤكد على هذه الجملة ولا يريد أن يسمع غيرها أبداً”.

“وحكم علي بالبراءة لعدم علمي بما حصل، رغم أن دراستي في القانون وفيه قاعدة تقول لا جهل في القانون، ورغم ذلك تعامل الجميع على أننا جاهلات بالقانون”.

“وخرجت من المحكمة قرابة الخامسة والنصف بعد كتابتي تعهد بعدم المشاركة بأي مظاهرة أخرى، لاستنشق رياح السخرية من آلة تريد تطبيق القانون من خلال مخالفة القانون”.