الأطفال في ريف إدلب بين العمل والتسلح
غرق والده في البحر خلال رحلته إلى ألمانيا جعل فادي (13عاماً) يكبر قبل أوانه. فادي أصبح دون سابق إنذار المعيل لأمه وإخوته الذين لاحول لهم ولا قوة.
فادي هو واحد من مئات الأطفال السوريين الذين فقدوا آباءهم وسط الحرب التي تشهدها سوريا. الكثير من الأطفال باتوا خارج مقاعدهم الدراسية باحثين عن عمل، علّهم يستطيعون به أن يسدوا رمقهم ورمق أهلهم في ظل ارتفاع الأسعار وتردي المستوى المعيشي للمواطن السوري.
يقول فادي “لقد سافر والدي ليستطيع الحصول على مكان آمن وعمل مناسب، ثم يعمل على لم شمل العائلة ما إن يتحقق مايصبو إليه”. ويضيف فادي متأثّراً بمصير والده “لقد غرق مركبه أثناء توجهه إلى اليونان، ولم ينج من هذه الحادثة أحد”. ومنذ ذلك الوقت يشعر فادي بأنه هو من أصبح المسؤول عن إخوته الثلاثة الصغار، إضافة لأمه التي فعلت كل ما بوسعها لتحصل على عمل، دون جدوى.
يعمل فادي اليوم في أحد المطاعم، يبدأ دوام عمله عند الساعة الرابعة عصراً ويستمر حتى الرابعة فجراً. يقضي هذا الوقت بتنظيف المطعم وغسل الأطباق وتقشير البطاطا. يتقاضى أجرة أسبوعية وقدرها 4 آلاف ليرة سورية. أما بالنسبة للأم فهي وإن تأسف لكون ابنها تحمل مسؤولية كبيرة وهو في هذه السن، ولكنها من جهة أخرى تعبر عن رضاها قائلة “الحمدلله أنه وجد عملا في هذه الظروف. ما كنت أعرف ما الذي سأفعله لولا الأجرة التي يتقاضاها فادي. فهي وإن كانت قليلة تؤمن لنا بعض الحاجيات الأساسية، عدا عن منحه بعض الوجبات أحياناً، الأمر الذي أغنانا عن طلب المساعدة من أحد”.
حال فادي لا يختلف عن حال الطفل أحمد إبن العشر سنوات، والذي يبيع الأدوات المنزلية البسيطة في شوارع مدينة معرة النعمان. هذه الشوارع التي تكاد لا يغيب عنها القصف اليومي. يقول أحمد “استشهد والدي في القصف، وأنا أعمل لأساعد أمي في تحمّل أعباء العيش”. ليس وحده أحمد من يعمل ضمن العائلة وإنما معه إثنين من إخوته. الأول يبيع المثلجات على دراجته الهوائية، والثاني يعمل في أحد محال النجارة. ثلاثة إخوة يعملون لسد احتياجات عائلة مؤلفة من 8 أشخاص. تقول والدة أحمد وتدعى سهيلة (42 عاماً) “أعرف أن أولادي يجب أن يكونوا على مقاعد الدراسة الآن، لكن استشهاد زوجي وفقر حالنا لم يدع لنا خياراً آخر غير أن يعمل الأولاد”. وتشير الأم إلى أنها ليست قادرة على القيام بأي عمل كونها لا تحمل شهادة أو تتقن حرفة ما. وتضيف بسخرية “حتى حملة الإجازات الجامعية لايستطيعون الحصول على عمل هذه الأيام فكيف أفعل أنا؟”.
نبهت منظمة اليونيسيف التابعة للأمم المتحدة في تقرير أصدرته بالتعاون مع منظمة “إنقاذ الطفولة” (سايف ذا شيلدرن) إلى ظاهرة عمالة الأطفال التي تفشت في سوريا. وحذرت المنظمتان في تقرير مشترك من تفاقم هذه الظاهرة التي بلغت مستويات قياسية جراء استمرار الحرب في سوريا وتدهور الأوضاع الإنسانية.
ومما جاء في التقرير الذي حمل عنوان “يد صغيرة وعبء ثقيل” إن “النزاع والأزمة في سوريا يدفعان بأعداد متزايدة من الأطفال ليقعوا فريسة الاستغلال في سوق العمل” وبحسب ما ذكرت اليونيسيف في بيان صادر عن مكتبها في عمان، أكد المدير الإقليمي لمنظمة انقاذ الطفولة في الشرق الأوسط وأوروبا وآسيا روجر هيرن أنه “في وقت تصبح فيه العائلات السورية أكثر فقراً ويأساً جراء الحرب، فإن الأطفال يعملون بشكل أساسي من أجل البقاء على قيد الحياة، ويصبح هؤلاء لاعبين اقتصاديين أساسيين في سوريا ودول الجوار” .
وأوضح التقرير أن “أربعة من كل خمسة أطفال سوريين يعانون الفقر، بينما يبقى أكثر من مليونين ونصف المليون طفل سوري خارج المدارس وهو رقم فاقمه عدد الأطفال المجبرين على الانخراط في سوق العمل”. مبينا أن الأطفال داخل سوريا يساهمون في دخل عائلاتهم في أكثر من ثلاثة أرباع العائلات التي شملتها المسوحات.
وضع هؤلاء الأطفال يبقى أفضل بكثير من أقرانهم الذين تم تجنيدهم من قبل الفصائل المتحاربة جبهات القتال. ولاسيما جبهة النصرة وجند الأقصى وغيرها. رولا (39 عاماً) من مدينة كفرنبل، هي إحدى الأمهات اللواتي يعانين من هذا الأمر. تقول رولا “استيقظت في صباح أحد الأيام ولم أجد ولدي رائد (14عاماً) في المنزل. بحثت عنه كثيراً ولم أجده. علمت في ما بعد أنه التحق بجبهة النصرة، وهو يخضع لدورة تدريبية مدتها 15 يوماً”. لم تعرف الأم ما الذي تفعله لإنقاذ ابنها من الانخراط في صفوف القتال، وكيف تبعده عن لهيب الجبهات. خاصة وأن زوجها استشهد في قصف استهدف مدينة كفرنبل قبل أكثر من عامين، ولا أحد غيرها المسؤول عن سلامة أبنائها. حاولت رولا إقناع ولدها رائد حين عاد للمنزل أن يتراجع عن قراره بشتى الطرق والوسائل ولكن دون جدوى. وكان رائد يردد “إنه جهاد وليس للأهل طاعة في هذا الأمر”. عرفت رولا أن أبنها كان يردد ما يسمعه. ولكنها لم تستطيع أن تفعل شيئا سوى الدعاء المتواصل لابنها بأن يعود سالما في كل مرة يتجه فيها للقتال. تخشى رولا أن يحدث لولدها ما حدث للكثير من الأطفال اليافعين الذين ذهبوا ولم يعودوا إلّا معاقين أو جثثاً هامدة.
أطلق “دعاة الجهاد” برئاسة الشيخ عبدالله المحيسني، المقرب من جبهة النصرة حملة “إنفر”، والتي كانت تهدف إلى زج أكبر عدد من الأطفال في معسكرات التنظيم، وذلك دون موافقة الأهل متذرعين بأن الدفاع عن الدين والأهل فرض عين.
من جهة أخرى وردا على هذه الحملة تم إطلاق حملة “أطفال لاجنود” من قبل فريق توثيق انتهاكات جبهة النصرة وذلك للحد من تجنيد الأطفال في سوريا. واستهدفت الحملة الأطفال في الشمال السوري وتضمنت نشاطات عدة وفق منسقها الناشط عاصم زيدان الذي أرجع سبب انتشار ظاهرة تجنيد الأطفال إلى “غياب المؤسسات التعليمية ووجود التنظيمات المتطرفة”. وقد وثق الفريق تجنيد أكثر من 500 طفل بعد حملة “إنفر” تحديداً، فتم توزيع بوسترات للأطفال وبروشورات للاهالي تحذر من عواقب الظاهرة.
الطبيبة علياء ( 39عاماً) الأخصائية بأمراض الأطفال تقول “عمالة الأطفال وتجنيدهم لها عواقب وخيمة على الطفل ونموه الجسدي والعقلي والنفسي، لاسيما وأنه عرضة للاستغلال من قبل أرباب العمل الذين يعمدون لتشغيل الأطفال لساعات طويلة وبأجور زهيدة. وأحيانا يتعرض الطفل للعنف والضرب من قبل هؤلاء”. وتؤكد الطبيبة “أن الأطفال وخصوصاً الأيتام منهم ينساقون بسهولة وراء كل من يغريهم بالمال سواء للتجنيد أم لغيره”. وتدعو الطبيبة علياء كل من يهمه الأمر وخاصة جمعيات كفالة الأيتام في المنطقة للقيام بدورها، ومحاولة استيعاب هذه الأعداد، والعمل على انقاذ أطفال سوريا من عواقب مافرضته عليهم ظروف الحرب.