الأحزاب الكردية والشباب

قضى محمد ثلاث سنوات في صفوف “الحزب الديمقراطي الكردي” ثم قدم استقالته. ويلخّص الأسباب التي دفعته إلى اتخاذ هذه الخطوة في جملةٍ واحدةٍ يقول فيها: “لن تستطيع الأحزاب الكردية في سوريا أن تنجز شيئا ملموساً على الأرض، إذا لم تتخلّ عن هياكلها التنظيمية التي تحاكي هرمية الأحزاب الشمولية، والتي أفرزتها الأنظمة الشيوعية ما قبل سقوط جدار برلين.”

مصطفى شابٌ كرديٌ آخر توقف عن العمل التنظيمي في فصيل كردي كان قد انشق عن الحزب الذي كان ينتمي إليه محمد. ويعزو مصطفى، وهو معتقلٌ سابقٌ، عزوف الشباب  الأكراد في السنوات الماضية عن الانتساب إلى أحزاب كردية إلى تخشب الخطاب السياسي للحركة الكردية في سوريا ويستطرد قائلاً: “وجود أحزاب الحركة الكردية ضروري، فهي صمام أمان للأكراد السوريين، لكنني لن أتوانى عن مناصرة أي بديل حقيقي في المستقبل إن لم تستطع هذه الأحزاب الموجودة تلافي بؤسها الفكري والتنظيمي الذي تراكم على مستويات عدة.”

يرى الشاب الكردي دجوار أنّ معظم الأحزاب الكردية تحولت إلى دكتاتوريات صغيرة، إذ يبقى الأمين العام في منصبه مدى الحياة، وقد لا يرى هذا الأخير ضيراً في تصدع حزبه وتعرضه لأكثر من انشقاقٍ دون أن يفكر ولو للحظة أن يسلم جزءاً من مهامه لشباب أكفاء أو أن يساهم في سريان الديمقراطية في عروق حزبه. يصف دجوار هذا الوضع “بالطامة الكبرى” وهو متأكد من أنّه سبب هام في تردّده كناشطٍ على الإنترنت بالانتساب لأيّ من أحزاب الحركة الكرديّة في سوريا على الرغم من كون والده يحتل منصباً مرموقاً في حزب كردي عريق.

تتبنى الأحزاب الكردية شكلاً تنظيمياً يعتمد على الهيكل العمودي، المكون من لجنة مركزية، فلجانٍ مناطقية، وفروعٍ وفرقٍ وخلايا. يعتبر مصطفى هذا الشكل غير مناسب للروح الشبابية الرافضة للبيروقراطية التي تترافق حتمياً مع هذا النمط التنظيمي .كما يلمس المتتبع للوضع الكردي حالة من الإنغلاق الفكري، الذي يطغى على قيادات ومسؤولين حزبيّين تتمّ تزكيتهم لتبوّء المناصب معتمدين على شرعيةٍ اكتسبوها بسبب الأقدمية أو سنوات السجن والنضال، بينما يتمّ إهمال مؤهلات عديدة كاتساع الأفق الفكري والمؤهلات الثقافية والأكاديمية وإتقان اللغات.

نشأ “البارتي”، وهو أول حزب كردي في سوريا، عام 1957، وقد حاول هذا الحزب الذي أسّسه مثقفون وطلبة وسليلو إقطاع متنورين وعلماء دين التوفيق بين المنحيين القومي الكردي من جهة والوطني السوري من جهة أخرى، وأرادوا أن يجعلوا من هذا الحزب الواجهة السياسية لشعبٍ عانى طويلاً من الإهمال والتهميش ومن تبعات الإتفاقات الدولية التي وُقعت في بدايات القرن المنصرم وقسّمت الرقعة الجغرافية للشعب الكردي على أربع دول.

واعتقل مجمل قادة الحزب الكردي الحديث النشأة خلال السنوات اللاحقة، حيث واجه هذا الحزب أوّل اختبارٍ جدي ضمن زنازين السجن بين جناح راديكالي وآخر آثر التريث والمهادنة ونجم عن هذا الخلاف احتدادٌ سياسيٌ أدى لاحقاً  إلى حدوث الإنشقاق الأول في عام 1965.

بيد أنّ الأحزاب الكردية عملت وفق إمكانياتها المحدودة على تهيئة الظروف لخلق جيلٍ كرديٍ متنورٍ واستفاد بعضها من المنح الدراسية التي وفرتها دول المنظومة الشيوعية لها كي ترسل مئات من الشباب الأكراد السوريين للدراسة في الخارج. كما استطاعت هذه الأحزاب أن تنمّي طاقات بعض الشباب كي يصبحوا  كوادر مستقبلية من خلال دورات تعليم اللغة الكردية وبعض الحلقات الثقافية خلال السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم. وبينما كانت القيادة القطرية لحزب البعث تشرف على مشروع “الحزام العربي” الهادف إلى تغيير ديمغرافية المناطق الكردية،   بدأت تتزايد الإنشقاقات في أجسام الأحزاب الكردية  نتيجة خلافات شخصية وفكرية، ومنها ما كان مردّه ولاء أو استتباع لمحاور كردية خارج سوريا.

إستقطبت الأحزاب الكردية في الثمانينات قطاعاً واسعاً من الشباب لأنّ هذه الأحزاب كانت توفر القناة الوحيدة للتعبير عن النفس في المراحل التي سبقت ثورة الإتصالات الحديثة. ولكن مع إحساس جزءٍ كبيرٍ من الشباب بأنهم لا يشكلون وزناً داخل أحزابهم وأنّ هناك إعاقة لدورهم، بدأت الإستقالات والإعتكافات عن العمل التنظيمي تتزايد وصولاً إلى امتناع قطاعاتٍ كبيرةٍ من الشباب عن مزاولة العمل الحزبي.

في بدايات العقد السالف وبالتوازي مع ما اصطلح عليه باسم “ربيع دمشق”، إشترك مثقفون ونشطاء وطلبة من الأكراد في تأسيس المنتديات التي أغلقت بعد فترة قصيرة، فانخرط بعضهم في منظمات حقوق الإنسان ولجان إحياء المجتمع المدني. وكان جلهم من الشباب الذين ضاقوا ذرعاً بالحلقات الحزبية الضيقة والنشرات السياسيّة التي تحوي خطاباً سياسياً مكرراً لم يعد يلبي طموحاتهم. وقام حزب “يكيتي” الكردي، وهو حزب حديث الإنشقاق، بتنظيم مظاهرةٍ صغيرةٍ أمام مبنى البرلمان السوري في ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في عام 2002. وكان هذا التحرك العملي سبباً في انتساب العشرات من الشباب إلى صفوف هذا الحزب. ولكن ديناميكية “يكيتي” لم تستمر طويلاً فتحول سريعاً إلى رقمٍ آخر يضاف إلى قائمة أحزاب الحركة الكردية.

وتجسد ت حماسة الشباب واندفاعهم في انتفاضة آذار/مارس 2004 التي سادت كل مناطق التواجد الكردي في سوريا وكانت سابقة يعتبرها معظم الشباب الكردي إرهاصاً   للثورة السورية القائمة حالياً والتي يحتل فيها الشباب الأكراد دوراً أساسياً. في بداية الثورة في ربيع 2011، إعتقل عددٌ كبيرٌ منهم في دمشق وريفها ومن ثم انتقل الحراك إلى كل من قامشلو، وعامودا، وسري كانييه (رأس العين) وامتدت فيما بعد، وبالتدريج، إلى المناطق الأخرى. في الوقت الذي لم تبادر فيه الأحزاب الكردية إلى المشاركة الرسمية في الإحتجاجات، كان للشباب المنتسبين إلى هذه الأحزاب أسبقية في تنظيم الإحتجاجات إلى جانب السواد الأعظم من الناشطين والذي كان من الشباب المستقلين عن أي تنظيم أو من المستقيلين من الأحزاب، إلى أن أعلنت معظم الأحزاب الكردية المشاركة الرسمية في التظاهرات وهي التي تنضوي إلى كلّ من “المجلس الوطني الكردي”، الذي يضم في صفوفه غالبية الأحزاب الكردية، وجزءاً من التنسيقيات الكردية، وكذلك “حزب الإتحاد الديمقراطي” الذي يصر على فرض الطابع الكردي البحت على الحراك ويدعو إلى إدارة ذاتية، و”اتحاد القوى الديمقراطية” والذي يضم أحزاباً صغيرةً وبعض المستقلين.

تقول سلافا، وهي طالبة أدب انكليزي، إن الأحزاب الكردية قدمت وفق إمكانياتها ما قدمته وهي مشكورة على ما بذلته لكنها لا تستطيع أن تعيد إنتاج ذاتها بالوسائل والسبل نفسها التي طبقتها في الفترات السابقة وتستطرد قائلة: “عليها أن تعي أنّ احتكار جميع الأنشطة والفعاليات من قبلها بات جزءاً من الماضي ويفترض أن تتقبل هذا الواقع وأن تعيد صياغة نفسها وفق متطلبات المرحلة الجديدة، وأن تصغي بكل جوارحها إلى متطلبات الجيل الشاب وإلا سيفوتها القطار.”