إسمي رحاب وهذه قصتي
"كنت من الطلاب الأوائل في مدرستي، في سوريا. وكانوا دائماً يلقبونني بالحاسوب، لشدة ذكائي. إلى أن حدث ما حدث ولم تعد الأحوال كما في السابق."
(الريحانية-تركيا) في 12 سبتنمبر/أيلول 2011، لجأت إلى تركيا مع عائلتي بسبب الحرب التي اندلعت في بلادي وما شهدناه من سوء الوضع المعيشي.
كنتُ لا أزال حينها في الصف الأول الثانوي ولم استطع إكمال تعليمي. وفي بلد اللجوء كانت الاوضاع صعبة جداً، وليست كما عهدناها في بلدنا، فقد اضطررت إلى أن أتركَ مدرستي لكي أعمل وأساعد والدي في إعالتنا.
كان والدي مُدرّسا للغةِ العربية لسنواتٍ عديدةٍ في سوريا. إلا أنه تقدم به السن قليلا ولم يتم قبوله في أيِّ مدرسةٍ في تركيا، بسبب الرغبة المُلحة في رفد الكوادر بمعلمين أصغر سِناً، لاعتقادهم أنهم يملكون من أدوات وطرائق التدريس الحديثة، ما سيعود بالنفعِ أكثر على الأجيال.
ولهذا السبب أُضطرَّ والدي بعد محاولات عديدة باءت بالفشل، أن يستأجر دُكاناً صغيراً ويعمل به، كي يسُدَّ رمق هذه العائلة ويُبقي أفرادها آمنين، بعيدين عن الحروب وكل ما يُخيفهم.
كما أنه عمل أيضاً، إلى جانب عمله في الدكان، على سيارة صغيرة كان يملكها منذ أن كان بسوريا. إذ يقومُ بتوصيل الزبائن إلى الأماكن التي يريدونها في حال طُلِب منه، وذلك بعد أن يُبقي أحد إخوتي في الدكان إلى حينِ عودته…
كنت من الطلاب الأوائل في مدرستي، في سوريا. وكانوا دائماً يلقبونني بالحاسوب، لشدة ذكائي. إلى أن حدث ما حدث ولم تعد الأحوال كما في السابق.
عملتُ بكافة أنواع العمل، من خياطة وتطريز وأعمال منزلية. كلها لم أكن اعرفها .عملتُ بأعمال شاقة دون أي تذمر بالرغم من أن قلبي كاد ينفطر من شدة الحزن، لما وصلنا، ووصلتُ انا تحديدا إليه من حال.
أكثر ما كان يمزق قلبي، أنني كنت كيفما تطلعت رأيتُ أصدقائي. ذاك الذي أصبح مهندساً وتلك التي أصبحت طبيبة وأخرى معلمة، وأنا؟ ماذا عني؟ أنا لا شيء ولم أصبح شيئاً.
في كل مرة كنت أهمّ فيها لمتابعةِ دراستي يأتيني صوتٌ خفي، ويُذكرني بأنني نسيت كل ما أملك من معلومات، بسبب هذا الانقطاع الطويل عن الدراسة. إلى أن أتى ذلك اليوم الذي تغيرت فيه حياتي، وتلك الساعة التي أوقدت نوراً في صدري، وجمال اللحظة التي أشعلت بريقاً في قلبي.
كان عندي صديقة في العمل، وكانت مقربة جداً مني، ودائماً كنت أبوح لها بما يدور بداخلي، فكانت هي الأخرى تتألم لألمي، ولكن بصمت دون أن تشعرني بذلك، فتحاول بكلماتها القوية والراسخة أن تواسيني وتهدئ ضجيج قلبي قليلاً…
عبير، كانت تَكبُرني سِناً. وأيضا هي الأخرى لم تكمل دراستها، ولم يكن ذلك تقصيراً منها. لا، على العكس تماماً، فهي امرأة واعية وتحب العلم حباً جماً، ولكن ماجعلها تترك مدرستها هو أن الناس قديماً لم تكن تهتم بالعلم، وكان من الشائع تزويج الفتاة في سن مبكرة، كما هو الآن، وعبير كانت إحداهن…
عبير (38 عاماً)، امرأة قوية، جَلدة تعمل كي تساعد زوجها بكل حب، فهي ليست مُستاءة من حالها لاأو ماهي عليه. لأنها وبِنظرها لم تعد تستطيع أن تفعل أكثر من الذي تفعله الآن. فهي لا تستطيع أن تُعيدَ سنين شبابها التي سُلِبتْ منها.
ذات يوم وأثناء جلوسي معها، ملأ عينيَّ حزنٌ شديد. فأنا لم أعد احتمل ولم أعد اطيق هذه الحال. “ارجوكِ يا عبير قولي لي ماذا أفعل؟” بهذه الكلمات خاطبتُ عبير، وشعرت حينها بألم في صدري. عبير تأثرت جدا لما رأتني عليه من حال، وامتلأت عيناها بالدموع.
أخذت عبير نَفَسَاً عميقاً وقالت لي: “رحاب، أنتِ أقوى شخص عرفته في حياتي. ألا تذكرين كم من المرات قلتِ عن نفسكِ أنكِ قوية؟ وها أنا ذا اقول لكِ ذلك… اذهبِ يا رحاب، وأطلقِ سراح أحلامكِ، فالحياة قصيرة جداً، وليس هناك ماهو أهم منكِ ومن مستقبلكِ على وجه هذه الأرض، عودي إلى مقاعد الدراسة”.
دقيقة صمتٍ ودهشةٍ واستغراب وتأمل وتَفكُر، والكثير الكثير من المشاعر المختلطة التي طغت عليها الصدمة من وقع ما سَمِعَتهُ أُذناي. ثمّ خاطبتها: “أحقاً ما تقولين ياعبير؟! هل أستطيع ان أُكمِلَ دراستي؟” “واللهِ ليسَ هناكَ من هو أحقُ بالدراسةِ منكِ يارحاب، إذهبي يا صغيرتي ولا تترددي”. هذا ما جاوبتني به…
عمت الفرحة قلبي بعد ذلك الكلام وذلك الحوار، شَعرتُ أن وجه السماء تبدل واصبح باسِماً، والشمس غطت اشعتها المشرقة عيني، ونورٌ لم أكن أعلم مصدره قد غطى قلبي، انصرفت عن رحاب بعد ذلك، متجهةً إلى منزلي، وفور دخولي أعلمتُ عائلتي بقراري.
في البداية، لم يَنلِ الموضوع إعجابهم أو تشجيعهم، بالإضافة إلى أنهم توجهوا إليَّ ببعضِ الكلمات المُحبطة، التي جعلتني أُطأطئ رأسي أرضاً، لِوهلةٍ من الزمن، ولكنني ما إن تذكرتُ كلام عبير حتى رفعت رأسي، ووقفت أمامهم بكل قوةٍ وثبات وقلت لهم: “أخذت قراري وانتهى الأمر، من الآن فصاعداً سأفعل ما أرى فيه سعادتي فقط”.
تركتهم وذهبت إلى غرفتي. وفي اليوم التالي خرجتُ صباحاً من المنزل ورافقتني عبير. أخذنا نبحث عن مدرسةٍ أدرس فيها الثالث الثانوي إلى أن وجدنا ما نريد. مدرسة السلام وهي ثانوية سورية، بالتالي لم تكن اللغة عائقاً كبيراً، كما انني كنت قد أتقنت اللغة التركية نوعاً ما.
ولكن الصدمة كانت انه لم يتبق سوى شهرين للإمتحان النهائي. وجميع التلاميذ في منازلهم يدرسون ويتهيأون للإمتحان، وانا لم أكن ادري شيئاً عن المنهاج، أو ماهو موجود في الكتب، فأخذت ابكي مجدداً… إلّا أن ألامل الذي كان في داخلي، والبريق الذي يكاد يخرج من صدري، كانا أقوى من أن تهزِمَني تًلكَ الصدمة…
نهضتُ مجددا ومسحتُ دموعي واستعدت قِواي وقلت: “لن استسلم ابداً”. مع هذا الكلمات القليلة أكملتُ تسجيلي في المدرسة، وأحضرتُ منها الكتبَ التي يتوجب عليَّ دراستها لهذه المرحلة… عُدتُ إلى المنزل ومعي كتبي، وأخذتُ من اللحظة الأولى اتصفحها، وابدأ بدراستها، متوكلةً على ربي ودعائي…
مَضت الايامُ والساعات بسرعة الضوء، ولم ارَ نفسي إلّا داخل قاعة الامتحان، انظر إلى نفسي وإلى الطلاب من حولي ولا أكادُ أصدق. انها لحظة حقيقية من شدة سعادتي فيها، رغم الخوف الذي كان يسيطر علي أثناء الامتحان.
انتهى الامتحان وبدأنا ننتظر النتائج ولم يكن أمامي سوى الدعاء، والإيمان التام بالله واليقين الكامل به أنه لايرد كفيّ عبد رفعهما له بالدعاء.
رحاب مصطفى (22 عاماً) من محافظة حماة .