أي ألم لم أجربه بعد!

امرأة سورية تجلس بالقرب من أبنها الذي قتل بقصف لقوات النظام على أحياء مدينة درعا.

امرأة سورية تجلس بالقرب من أبنها الذي قتل بقصف لقوات النظام على أحياء مدينة درعا.

"أصبح عمر الطفلة الآن 3 سنوات، وهي تنتظر قدوم والدها الذي لم تره. وتلك كانت ضربة القدر الثانية. "

“ماذا بعد؟ ما الذي يمكن أن يحدث أشدّ ألماً مما حدث؟” سألتني جارتنا الجديدة أم مصطفى وهي تنظر في عيني مباشرة.
أم مصطفى التي أصبحت تعيش على مقربة من بيتنا بعد نزوحها من بلدتها، كانت دوما تثير اهتمامي، ربما كان يبدو عليها ما تحمله من هموم كبيرة وحزن أكبر. أذكر حين زارتنا أخيراً وطلبت إليها أن تروي لي قصتها. مانعت بداية ولكنها وافقت بعد أن قلت لها، ربما مشاركة العبء يخفف من حمله.
وبدأت أم مصطفى ومن دون تمهيد، كما جرت عادة الرواة قديماً. ولم تبدأ القصة هذه المرة بـ “كان يا ما كان” وقالت أم مصطفى:
عائلتنا مكونة من زوجي وأنا وثلاثة شبان وابنتين. في 28 ديسمبر/كانون الأول 2014، وفيما يستعد العالم للاحتفال بعيد رأس السنة الميلادية، أصيب زوجي بينما كان في عمله. فقد قدميه وأصبح عاجزاً. تلك كانت الضربة الأولى التي وجهها لنا القدر كعائلة.
مساء 14فبراير/شباط 2015، كنا قد علمنا بخبر حمل زوجة ابني مصطفى. سنصبح جداً وجدة، ولدنا سيصبح أباً. حمل هناء زوجة ابني كانت له عوارض الوحام، اشتهت الكرز. ومن شدة فرح مصطفى أسرع إلى السوق ليحضر الكرز. ذهب ولم يعد بعد. ولم تعرف هناء طعم الكرز ولا طعم الهناء من يومها حتى الآن.
وضعت هناء مولودها، فتاة جميلة كأنها والدها. تشبهه تماماً مع وشم الكرز على يدها يذكرنا بتلك الليلة المشؤومة. أصبح عمر الطفلة الآن 3 سنوات، وهي تنتظر قدوم والدها الذي لم تره. وتلك كانت ضربة القدر الثانية.
تنهدت أم مصطفى والدمع في عينيها وتابعت قائلة: صباح 18 نيسان/أبريل 2015، كنا نشرب القهوة حين سمعنا طرقات متسارعة على باب المنزل مصحوبة بأصوات عالية. كنا نأمل بعودة غائبنا فأسرع صغيري رامي لكي يفتح الباب. وما هي إلا دقائق حتى اقتحم عناصر النظام المنزل.
عدة جنود بلباس عسكري ومدني عند باب البيت بعضهم وقد دخل بعضهم الآخر. سأل أحدهم: أين كريم؟ أجاب ولدي: أنا كريم، ماذا تريدون؟
وما إن نطق بهذه الكلمات حتى أمسكوه وكبلوا يديه وغطوا رأسه. وإذا بإبنتي التي دخلت الغرفة لحظة اعتقال أخيها ابنتي تبدأ بالصراخ والبكاء: أخي ماذا تفعلون بأخي؟ ابتعدوا عنه. ولكن أحدهم هو من أبعدها قائلاً: سنستضيفه عندنا.
بيكينا كثيراً ورجوناهم أن يتركوه دون جدوى. لم نعلم مكانه ولا سبب اعتقاله إلا بعد عذاب طويل. لم يسمحوا لنا برؤيته حتى. وكان الذنب الذي اقترفه انه ذهب إلى عزاء صديقه الذي كان مطلوباً للأمن. تلك كانت ضربة أخرى من القدر نفسه.
لم يمض الكثير من الوقت لأرمم قلبي من وجعه حتى أتتني ضربة أخرى. في 3 حزيران/يونيو 2015، ترك صغيري رامي هذا العالم. ذهب إلى مكان أفضل بكثير. استشهد طفلي برصاصة طائشة. كيف تكون طائشة وقد أصابت هدفها. ألم يكن هدفها القتل؟
لم يكن هناك من وقت لأنسى ألمي من فقدان الأول واعتقال الثاني حتى أستشهد الأصغر. لم ينته الشهر إلّا وجاءني خبر وفاة ابنتي وزوجها وطفليها تحت الأنقاض جراء قصف منزلهم في 29 حزيران/يونيو 2105. لم ينج من عائلة ابنتي سوى طفلها الأصغر.
استشهدوا جميعاً، وحده طفلها بقي ينادي: أمي أين أمي؟ أريد أمي. حملته وضممته إلى صدري وقلت له امك ذهبت الى الجنة يا صغيري.
اختفى ابني الأكبر. توفي إبني الأصغر وابنتي مع عائلتها. اعتقلوا ثاني أبنائي. كل هذا خلال أقل من عام واحد. كانت أسوأ سنة تمر في تاريخ عمري. سنة 2015 أكرهك جدا،ً خارت كل قواي، جربت كل أوجاع الدنيا. لم يبق من وجع لم اجربه ولله المشتكى.
ولم تفرغ من كلماتها حتى أجهشت بالبكاءـ شعرت بالظلم، ربما أخطأت بسؤالها. ولكنها قصة من قصص سوريا التي زلنا نعيشها.
معاناة هذه العائلة تصف لنا معاناة جميع الأسر السورية. بين خطف واستشهاد واعتقال. القصف الذي تسبب ببتر أطراف رجل هو أب. وموت الإبنة مع طفلها وزوجها.
إلى متى ستبقى هذه الحرب المشتعلة تسبب لنا كل أنواع الوجع هذه؟ متى ستنتهي وتنهي معها ألمنا وتعبنا من كل شيء؟
ونسأل الله الفرج القريب .
كارولين الداده (22 عاماً) من دمشق نزحت إلى ريف إدلب تحمل شهادة البكالوريا، تابعت العديد من التدريبات الصحفية وتبحث عن عمل.