أيها الضابط خذني واترك إبني!

أذكر ذلك اليوم بكل تفاصيله التي رُسِمت في ذهني، من كثرة الخوف والرعب اللذين شعرت بهما.

فبعدَ دخول القوات التابعة للنظام جميع المدن والقرى السورية، نشرت حواجزها في كافة المداخل والطرقات والمفارق. ليمنعوا التظاهر ويعتقلوا الشباب… وكل مَن خرج للتظاهر دون استثناء، طفل أو إمرأة!

كان جارنا شاباً وحيداً لأبويه العجوزين. متزوج ولديه طفلين صغيرين. منزله المجاور لمنزلنا، يجعلنا نطل عليه بكل تفاصيل حياته. كان الشاب إماماً في أحد جوامع مدينة كفرنبل. ويتلو القرآن على أطفال الحي لتحفيظهم الآيات القرآنية. كان رجلاً طيباً مسالماً، لم نكن نتوقع ما حصل له في ذلك اليوم.

يوم 16 تموز/يوليو 2011، قرابة الساعة السادسة صباحاً، كان جميع أهالي المدينة نائمين. والسكون يعم الحي. خرجت والدتي لتضع كيس النفايات أمام المنزل، بحيث جرت العادة أن يأتي عامل النظافة ليجمعها كل صباح.  عادت والدتي على عجل، لتوقظنا والدهشة على وجهها وصوتها يرتجف. قالت: “الله يستر! انظروا من النافذة المطلة على جيراننا،من دون أن يشعر بوجودكم أحد، فهناك ما يحصل في الخارج!”

كان وجه أمي شاحباً، وكل تفاصيله تعبّر عن خطورة ما رأته. ما جعلنا نستيقظ ونذهب مسرعين لنشاهد الرعب! انتشر جنود قوات الأمن وناقلاتهم في كل الحي. كل شيء في ذلك المشهد كان مخيفاً! عددهم الكبير، بذّاتهم العسكرية، أحذيتهم الضخمة، أسلحتهم المتنوعة بأحجامها وأشكالها… طوَّقوا كلَّ الحي، ومنزل جارنا بشكل خاص. ظننا أنهم يقومون بالمداهمات المعتادة لاعتقال كل مَن خرج بالمظاهرات ضد النظام.

خفتُ كثيراً وهرعت مسرعةً إلى التلفاز، ومسحتُ كل القنوات الإخبارية المعارضة والمحايدة أيضاً! خوفاً من اعتقال والدي الذي أنهكه العمر. وعدتُ لأرى ماذا يف

إحدى الصحفيات المواطنات تقوم بتصوير حالة لأسعاف طفل تعرض منزله للقصف في مدينة حلب;
إحدى الصحفيات المواطنات تقوم بتصوير حالة لأسعاف طفل تعرض منزله للقصف في مدينة حلب;

علون! فجأة، خرج من منزل جارنا عدد من العساكر بأسلحتهم الموجّهة عليه، وهم يسوقونه أمامهم ويقومون بضربه بشكل عنيف وقاسٍ، بأيديهم وأرجلهم وأسلحتهم!

كانت يداه مكبلتين بسلكٍ من خلف ظهره… ووالداه وأطفاله الصغار وزوجته يبكون بحرقة ويصرخون: “ماذا فعل لكم، لماذا تضربونه بهذه الطريقة؟ هو لم يخرج بأي مظاهرة!”

ركضتْ والدته المنهكة، وأمسكت بالضابط تبكي وتترجاه قائلةً: “أيها الضابط، بأولادك… خذني واترك إبني، فهو لم يفعل أي شيء مسيء!” بقيت الأم تترجاه وعينيها على ولدها فلذة كبدها، الذين أشبعوه ضرباً وإهانات وذل بكل وحشية. بكينا كثيراً على حاله وحال عائلته وأطفاله، وحال أمه العجوز.

ذلك المشهد أثارَ خوفَ والدي، ذي القلب الضعيف، مما أوقعه أرضاً وهو يكرر: “أنا لا أستطيع تحمُّل ما أرى، كيف لي أن أتحمّل ما سيفعلونه بي لو جاؤوا  وأخذوني؟!” فشعرتُ بتراجع حالته الصحية في تلك اللحظة. خفت عليه كثيراً، وأجضرت لهُ دواءه وكأساً من الماء. وعدت أنظر إليهم في الحي وأنا مرتبكة، وأدعو الله أن يمضي اليوم على خير، دون أن يقتربوا من والدي!

فجأة، رموا الشاب بإحدى سياراتهم، وصعد معه عدد من العساكر ممن كانوا يضربونه! سارَ موكب السيارات، ووالدته من خلفه تلوّح بيدها وتكرر: “ربي معك يا ولدي، ربي معك”.

انهارَ جميع أفراد العائلة بعد رحيل ولدهم لمصيرٍ معروف، وهو الإعتقال والتعذيب بأبشع أشكاله، والذي أدّى لموت معظم المعتقلين. خرجنا مسرعين نساند الأهل ونواسيهم. نعطيهم قليلاً من الأمل بعودته سالماً!

مضى أربعة أشهر على غيابه، وكان حال أهله يزداد سوءًا يوماً بعد يوم… ووالدته التي أتعبها غيابه، كانت في حالٍ يُرثى لها… إلى أن جاء ذلك اليوم السعيد، الذي خرج فيه الشاب من السجن سالماً الحمد لله! ورغم كل علامات التعذيب البادية على وجهه الشاحب وجسده المرهق، كانت سعادة أهله بعودته لا توصَف!

تحمّل جارنا كل أنواع التعذيب الذي يطال جميع المعتقلين، ليخرج بعضهم ويُحدّث الناس عن عذاب السجون، فيمتنع الناس عن التظاهر خوفاً من الإعتقال… هذا ما كان يظنه النظام!

لكن رغم الإعتقال والتعذيب، ورغم القصف والدمار… استمرت المظاهرات وستستمر الثورة، إلى أن تنتصر بإرادة الشعب… و”إذا الشعب يوماً أراد الحياة، فلا بدّ أن يستجيب القدر.”

نسرين الأحمد، (33 عاماً) من كفرنبل في ريف ادلب. أم لولدين توقفت عن دراستها الجامعية في السنة ثالثة أدب عربي بسبب الأوضاع الأمنية.