أطفال سوريون يهجرون المدارس بحثاً عن عمل
راحيل ابراهيم*
(جرمانا، سوريا) – يقترب مازن البالغ من العمر 12 عاماً من أحد الرجال المصطفين في طابور طويل أمام فرن في جرمانا. يدور بين الإثنين حوار سريع، يعقبه تخطي مازن الجميع إلى داخل الفرن وعودته بربطة خبز، يلحق به الرجل ينقده مبلغاً من المال بدل ربطة الخبز ويفترقان.
ويروي مازن كيف حصل على ضعف السعر الأصلي لربطة الخبز، بفضل علاقته بأحد عمال المخبز. يفاخر مازن بمغامراته هذه، ولا يجد فيها استغلال حاجة ضيق العيش وازمات الآخرين، بل تلاقي مصالح. سنوات الحرب تركت بصمة على شخصية مازن وأبناء جيله بل من المرجح أنها تركت بصماتها على الشعب السوري بمختلف توجهاته. العنف لم يترك مساحة للشعور بطمأنينة العائلة وأحضان الأمهات. الصبية الصغار يستعجلون العمر تركوا المدرسة ليخوضوا تجاربهم الجديدة على اختلافها، في زحمة الموت، وفاقة الرغيف، ومعجزة البقاء على قيد الحياة، مجرد البقاء فقط.
يتردد مازن لدى سؤاله من أين هو، وهو سؤال أصبح حاجة لتحديد الهوية والانتماء غالباً، ولكنه يعود يجيب ” أنا من المليحة”. وبعد كسر حاجز الشك وترسيخ بعض الثقة يستعيد مازن قصة رحيل عائلته من المليحة في ريف دمشق وصولاً الى جرمانا. ويتناول مازن قصص الكثير من الفتيان الآخرين ممن هم في مثل سنه منهم من احترفوا الحياة العسكرية، ويتحدث عن ولد لا يتجاوز الـ 13 من العمر بات من القنّاصين المحترفين، وبات أشدّ عزيمة من أن يخاف من الدبابات وقد حاصرت المدينة الصغيرة، شرقي العاصمة دمشق. وفي التفاصيل، يأخذك الى الكثير من المعلومات عن المليحة.
مازن ليس وحيداً فشقيقه ميسم الذي يصغره بعام تفوق عليه في استثمار ظرف الفقر والحاجة. ميسم يعمل في توصيل طلبيات الزبائن لصالح سوبر ماركت، يشتري يومياً 10 ربطات خبز من الفرن ويوصلها إلى صاحب المحل الذي يعمل لديه، أثناء عودته يركن ميسم دراجته إلى جانب الطريق، يفتح ربطات الخبز، يأخذ من كل ربطة رغيفاً، فيحصل على ربطة خبز جديدة يبيعها ميسم لسوبر ماركت آخر، أو لشخص عابر يكون بأشد الحاجة لها، فيفرض عليه السعر الذي يريد .
لجوء الأطفال إلى هذه الأساليب ليس غريباً في ظل العنف الذي تعرضوا له، وظروف النزوح والتهجير، التي فرضت عليهم أن يكونوا رجالاً كباراً، يبحثون عن طريقة لكسب لقمة العيش، وإعالة عوائلهم التي غالباً ما فقدت أباً أو أخاً، بدل أن يكونوا على مقاعد الدراسة يخططون للمستقبل.
وتفيد التقارير الصادرة عن كل من” المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين” و”منظمة الأمم المتحدة للطفولة” (اليونيسيف) أن الأطفال يشكلون نصف اللاجئين، وبحسب أحدث الأرقام هناك نحو 740 ألف طفل سوري لاجئ دون سن الـ 11 عاماً.
قسم من هؤلاء الأطفال ترك المدرسة نتيجة العنف الذي أجبر عوائلهم على ترك منازلهم والنزوح إلى مناطق جديدة، أونتيجة تعرض مدارسهم للقصف في مناطق الاشتباكات الساخنة. أطفال آخرون تركوا المدرسة لسوء الوضع المعيشي مع ارتفاع الأسعار وانعدام مصادر الرزق والعمل لكثير من العوائل ما يقف عائقا أمام تأمين لوازم المدرسة من كتب وقرطاسية ولباس، إضافة إلى ذلك، فإن الكثير من الأهالي منعوا أطفالهم من الذهاب إلى المدرسة، لانعدام الأمن والخوف من أن يتعرضوا لأي هجمات أو قذائف.
أطفال قاصرون اضطروا للعمل، لا تتجاوز أعمارهم 11 أو 12 عاماً. يعملون بمختلف المهن من بيع الدخان، إلى بيع الخضار على العربات، فتح بسطات صغيرة لبيع العلكة والتي لا تجني كثيرا من الربح، فيما يجول أطفال آخرون على المنازل يبيعون المناديل الورقية، وصولاً إلى التسول .
مع اقتراب عيد الأضحى لم يرتدِ هيثم (11عاماً) ثياباً جديدة. هيثم وقف أمام بسطته الصغيرة، يبيع البالونات الملونة لأطفال جاؤوا خصيصاً للاحتفاء بالعيد، ما يجنيه هيثم في اليوم لا يتعدى 300 ليرة، يعطيها لوالدته التي فقدت زوجها أثناء الاشتباكات في المعضمية، هيثم ترك المدرسة بعد أن نزح مع أمه وثلاثة من إخوته الصغار إلى مدينة جرمانا، ما يجنيه هيثم من عمله البسيط مع والدته التي تعمل على بسطة أخرى لبيع الملابس، بالكاد يكفي لإطعام العائلة.
ذكر تقرير نشرته الامم المتحدة، أن أربعة ملايين شخص في سوريا أجبروا على التخلي عن منازلهم، وأن مليوني طفل سوري بين سن 16 و15 عاماً، ما نسبته 40 بالمئة من إجمالي السوريين في هذه الفئة العمرية، أجبر على التخلّف عن المدرسة، وأن الكثير من الطلاب يواجهون مع بدء العام الدراسي الجديد في سوريا تحديات استثنائية لمواصلة تعليمهم، حيث أدى النزاع إلى الإضرار بنحو 4 ألاف مدرسة، ثلاثة آلاف مدرسة منها دمرت تدميراً كاملاً وفقاً لمنظمة الامم المتحدة للطفولة- اليونيسيف، فيما تستخدم نحو 1000 مدرسة لإيواء النازحين .
من جهتها أطلقت منظمة “اليونيسيف” الشهر الماضي بالتعاون مع وزارة التربية في سوريا حملة بعنوان “العودة إلى التعليم” استهدفت نحو مليون تلميذ في المرحلة الابتدائية في مختلف المدارس.
*اسم مستعار لصحافية تعيش داخل سوريا.