أطفالٌ داخل المعتقل!
A woman from Idlib's countryside carrying her son. Photo by: IWPR
"يبكي سليمان ويتوسل "لم أعد أريد أن أرى السماء، أريد أن أبقى مع أمي."
أختي فاديا على الرغم من كل الظروف القاسية التي مرت بها في حياتها، لم تفارقها الابتسامة، وكانت دائماً الأم الحنون لمن حولها، تطبطب وتداوي الجراح. فاديا امرأة قوية صبورة عمرها 34 عاماً، متزوجة، أم لثلاث بنات، ومعلمة في إحدى مدارس المرحلة الثانوية.
لم تشارك فاديا بأي عمل ثوري رغم حبها للثورة وتأييدها لها باطنياً، لكنها نأت بنفسها عن الحراك الثوري. لا بل شاركت في مسيرة مؤيدة للنظام في دمشق مجبرة كونها موظفة. كانت تخشى أن تخسر وظيفتها التي كانت سندها وعونها. فادية امرأة زبدانية لطيفة، خلوقة، محبّة، وبارة بوالديها، مجدة ومثابرة في عملها ومحبوبة بين طلابها.
في شباط 2014 قررت الذهاب الى دمشق لإحضار أوراق تخص عملها، وذلك بعد نزوحها الى بلودان منذ أكثر من عامين . أقلتها سيارة أجرة مع زميلاتها، وفي الطريق توقفت السيارة عند حواجز كثيرة كان أخطرها حاجز في منتصف الرحلة، هو حاجز التكية عند مركز الفرقة الرابعة على طريق دمشق الزبداني.
طلب العناصر على الحاجز البطاقات الشخصية، قلب البطاقات وقرأ الأسماء وصال وجال في دفتر أمامه مدون فيه أسماء النساء والرجال من أهالي المنطقة. وبعد دقائق نادى “فاديا بنت فلان انزلي” انصدمت للحظات وأجابت “أي بنزل مو عاملة شي” لكن التوتر والخوف كانا ينهشان روحها وقلبها. نقلتها سيارة أمن الدولة من الحاجز إلى فرع الخطيب مع عدد آخر من المعتقلات.
تروي فاديا قصة استجوابها بعد بضعة أيام من توقيفها، وتتحدث كيف أن المحقق كان ليناً، ولم تتعرض للتعذيب الجسدي لأنها كما تقول “ما عليي شي بس زيادة عدد”. تذكر كيف كانت معصوبة العينين في غرفة نتنة الرائحة، وكأن فيها جثث أموات. لم تستطع في أيامها الأولى الكلام، ولا حتى النوم. وصور بناتها لم تغادر مخيلتها، تقول فاديا “بعد أربعة أيام من اعتقالي بدأت أنسى وجوه أطفالي وأحبتي، لقد أخبرتني إحداهن أن المياه التي نشربها فيها مادة الكافور لنفقد الإحساس بكل شيء”.
تقول أختي “انتهى التحقيق معي وعدت للزنزانة الموحشة، أنّات المعتقلين تمنعني من النوم، وصراخ المعذبين. لم أنسَ رفيقات السجن اللواتي بحاجة لمساعدتي. فهذه مريضة كنت أعطيها الدواء في موعده، وأخبئ لها قطعة خبز لتأكلها قبل الدواء لتنجو من آلام معدتها، وأخرى مضى عدة أشهر على اعتقالها وتعذيبها فكنت أمسح الجراح وأواسي القلوب. أما مع الأطفال فكنت أشبه بالتلفاز أسليهم وأغني لهم وأروي الحكايات وأرسم لهم قوس قزح من الأمل، في أبشع مكان يمكن أن تتخيل يعيش فيه طفل”.
تكمل فاديا قصتها وقلبها يعتصر ألماً “في المهجع أربعة أطفال. أحدهم رضيع حديث الولادة لم تتم تسميته بعد. محمد دون الخامسة، ولين ثلاث سنوات وأخوها سليمان ست سنوات”. وكانت فاديا رغم آلام مفاصلها وشوقها لأطفالها تبتسم في وجوههم، وتساعد الجميع. تروي الحكايات وأغاني الطفولة للأطفال في المعتقل.
لم ينم الرضيع لشدة جوعه، فخلطت الأم قطعة خبز مع القليل من الماء وخضتها جيداً، ولقمتها للصغير فشرب كل ما فيها ونام، أما محمد ولين وسليمان فلم يعرفوا النوم. مرّ على اعتقالهم نحو شهرين لم يروا السماء خلالها.
صرخ سليمان بأمه بعدما استيقظ مرتعباً “أريد أن أرى المساء، أريد أن أرى الشمس، لماذا يحتجزوننا، أريدان أخرج. ناذا سأقول لمعلمتي، اشتقت لرفاقي”. بكى كثيراً كثيراً ونام.
أما لين فكل ما تحلم به بعض المربى. تطلب من أمها العاجزة عن فعل أي شيء وتبكي. فترد أمها على كل ذلك البكاء بأنها ستخرج قريباً وتشتري لها كل ماتحب. وهكذا في كل يوم حتى ينهكها الحلم والتعب فتنام على أمل الخروج.
بعد عدة أيام جاء السجان ونادى باسم سليمان وأخته فطار الاثنان فرحاً، ارتدى جاكيته على عجل ولم يحكم ربط حذائه وهو يضحك “أمي سنخرج، هيا بنا” كان يحاول مساعدتها على النهوض عندما صرخ السجان بقوة “فقط الأولاد، الأم ستبقى…” صعق الأطفال والأم، تشبثا بها وصرخا لا يريدان الخروج دونها يبكي سليمان ويتوسل “لم أعد أريد أن أرى السماء، أريد أن أبقى مع أمي.”
توسلت أمهم وهي تبكي وتقول: “إلى أين تأخذونهما؟ ليس لديهما في الدنيا سواي”. فرد سجانها “وكأنك تخافين عليهم أكتر منا؟” هي دقائق بين التوسل والبكاء والصراخ فصلوا الأم عن أولادها، وعلا بكاء المهجع. أما السجان فلم يهز جفنه كلمة ولم يرتجف قلبه حزناً على حال الطفلين وتعلقهما بوالدتهما”.
خرجت فاديا بعد عدّة أشهر ولا تزال أم سليمان ترتجف وتبكي وتنادي طفليها اللذين غابا عنها وغابت عنهما الى ما وراء الشمس.
نور احمد (26 عاماً) من مدينة الزبداني تخرجت من المعهد الهندسي في دمشق. تعمل كصحفية لصالح عدة وكالات إخبارية، الى جانب عملها كمعلمة للاطفال السوريين في لبنان. بدأت نشاطها الثوري منتصف العام 2012 كمحررة وكاتبة لمجلة اوكسجين الصادرة عن الزبداني.