أرملة سورية تعيش وتعمل لأجل بناتها في تركيا
نسرين عملت في الزراعة في تركيا لتعيل بناتها، تصوير دارين الحسن
انتظرت نسرين وزوجها سنوات طويلة حتى رزقهما الله بطفلهما محمد. ولكن الفرحة لم تكتمل، وكأن محمد جاء إلى الحياة ليأخذ والده ويمضيان معاً إلى العالم الآخر. لكنها لم تكن نهاية الحياة بالنسبة لنسرين، إذ كان عليها أن تكمل الحياة بصبر من أجل بناتها.
نسرين(28 عاماً) من مدينة إدلب، جمعها مع زوجها وليد زواج تقليدي في سن الثامنة عشرة من عمرها، أما زوجها فقد تقدم لخطبتها بعد تخرجه من كلية الآداب في جامعة حلب. كانت نسرين تتابع دورة تدريبية بصنع الاكسسوارات، وبعد زواجها تركت الأمر، على اعتبار أن زوجها ليس من المؤيدين لعمل المرأة خارج المنزل.
أنجبت أربع بنات تباعاً، قبل أن تتمكن من تلبية رغبة زوجها بإنجاب مولود ذكر يحمل اسم العائلة، ويعتني به في كبره. جاء محمد إلى الحياة ليغمر قلوب أهله والأقارب بالفرح والتفاؤل. فعمت البهجة أرجاء المنزل، وأخذ والداه يخططان لمستقبله وبأنه سيكون سنداً لهما ولأخواته في كبره .
بلغ محمد عامه الأول، ومع كل كلمة يلفظها، وكل حركة جديدة يقوم بها يمتلئ المنزل بالضحكات والمرح. وحلّ ذاك اليوم المشؤوم، 5 مارس/ آذار 2016. تاريخ لايمكن لنسرين أن تنساه. كان بداية لحياة الألم والعذاب.
في ذاك النهار سمعوا صوت طائرة حربية ودوي انفجار صاروخ بالقرب من منزلهم. دب الرعب في قلوبهم جميعاً، فما كان من الزوج إلا أن حمل صغيره محمد، وطلب من زوجته أن تلحق به مع البقية إلى الملجأ القريب من منزلهم. خرج مسرعاً بينما كانت تجمع الفتيات وتناديهن للذهاب إلى الملجأ بسرعة، ولكن قبل أن تخرج سمعت دوي انفجار صاروخ آخر .
خرجت نسرين مذعورة لتجد زوجها وولدها قد فارقا الحياة بعد سقوط الصاروخ بجانبهما وهما عند باب الملجأ. لم تكن المصيبة محتملة بالنسبة إليها، فقد بقيت فاقدة للوعي ليوم كامل، لكن حاجة بناتها لها جعلتها تتماسك وتصبر وتسلم أمرها لله وحده .
انفض مجلس العزاء والتحق كل بعمله وما يشغله من أمور الحياة، وبقيت مع بناتها في منزل أهل زوجها الذين أساؤوا معاملتها ومعاملة بناتها. كانت تقوم بأعمال المنزل طوال اليوم دون أن تسمع كلمة طيبة. وتشاهد بعينيها التمييز في المعاملة بين بناتها وبقية أبناء العائلة دون أن تنطق بكلمة، لكنها تحملت كل ذلك بسبب الحاجة إلى من ينفق عليها وعلى أسرتها بعد فقد السند والمعيل. ولم يكن من منزل مستقل يأويهم، فما كان منها إلا الصبر والتحمل .
كانت نسرين تزور منزل أهلها كل أسبوع، وفي كل مرة كان والدها يقنعها بضرورة ترك بناتها لتتزوج ثانية من قريب لها تقدم لخطبتها. كانت لا تزال في مقتبل العمر من وجهة نظره، وبناتها سيكبرن بسرعة ويتزوجن وستجد نفسها لوحدها بعد عدة سنوات .كانت نسرين تتجاهل حديث والدها، وتخبره بأنها لن تترك بناتها لوحدهن، وسوف تسخّر حياتها لتعليمهن وتربيتهن مهما حصل.
وفي أحد الأيام نفذ صبر والدها بعد أن أقنعه بعض رفاقه بأن ابنته لا تزال صغيرة، ولا يجوز أن تبقى في منزل أهل زوجها بسبب وجود إخوة زوجها الشبان في نفس المنزل. فجاء غاضباً إليها، وطلب منها أن تمضي معه قبل أن يتبرأ منها أمام الناس جميعاً، وقد يعمد إلى قتلها إن لم تستجب لطلبه .
ببكاء ودموع غزيرة ودّعت نسرين بناتها، ومضت مع والدها إلى منزله. هناك حبست نفسها في غرفة، وامتنعت عن الجلوس مع أهلها الذين حرموها من بناتها، وهن بأمس الحاجة لوجودها معهن بعد أن عاشوا اليتم والحرمان . مر شهر على تلك الحال، وكانت نسرين تطلب في كل يوم زيارة بناتها لتراهن وتطمئن عن صحتهن دون أن يسمح لها بذلك.
في تلك الفترة كان شقيق نسرين يستعد لمغادرة سوريا إلى تركيا مع أسرته بطريقة غير شرعية، توسلت نسرين إليه كثيراً كي يسمح لها بالذهاب معه مع بناتها. ووعدته أنها لن تكون عبئاً عليه، فهي مستعدة للعمل لتؤمن مصروفها ومصروف بناتها، وبعد جهد، وبمساعدة من أمها وزوجة أخيها وافق أخيراً على طلبها .
وفي الموعد المحدد ودعت نسرين والدتها، وذهبت لمنزل أهل زوجها وطلبت رؤية بناتها، وأقنعتهم بأنها ستصحبهن للمكوث معها لعدة أيام، وكانت فرحتها كبيرة حين رأتهن بعد غياب وضمتهن إلى صدرها.
يومخا كان أخوها ينتظرها بسيارة أجرة للانتقال إلى معبر باب الهوى، ومن ثم الدخول إلى تركيا، فباعت مصاغها الذهبي لتأمين المبلغ اللازم لذلك، وبعد عناء كانت نسرين مع بناتها وعائلة أخيها داخل الأراضي التركية، حيث قاموا باستئجار منزل وأقاموا به جميعاً .
وبدأت نسرين تعمل في الأراضي الزراعية صيفاً، وصناعة الاكسسوارات في أوقات فراغها لتؤمن معيشة عائلتها وتأمين كافة طلباتهم. ولاحقاً اتصلت بوالدها هاتفياً وطلبت منه أن يسامحها لأنها خالفت رأيه، وأقنعته بأنها لم ترتكب ذنباً، فكل ما طلبته أن تظل إلى جانب بناتها، وتبذل جهدها من أجل إسعادهن، مؤكدة بأنها لن تتخلى عنهن مهما كانت الظروف .