أحمر قانِ
ورد العاصي
إتصل بي صديقي الطبيب من دير الزور، وأخبرني عن حادثة كانت قد حصلت معه قبل بضع ساعات.
كانت الساعة الواحدة بعد الظهر في دير الزور والطرقات تغزوها القذائف في كل لحظة. كانوا ثلاثة: الطبيب الميداني، وشابة امتهنت التمريض بسبب الظروف التي تمر بها المدينة ونقص الكادر الإسعافي، وسائق السيارة الذي حمل الضيف المصاب إلى هذا “المشفى – البيت”.
لم يعرف الطاقم الطبي أين تكمن الإصابة في هذا الجسد المغطى بالدم. باشر الطبيب بعدّ الجروح ثم عد الخيوط المتوفرة لديه، بينما شرعت الممرضة والسائق بغسل المصاب ليعرف الطبيب من أين يبدأ.
مسحوا وجهه، ليظهر وجه شاب في أواخر العشرينات من عمره بعين متورمة وأسنان محطمة وصدرٍ مفتوح للحرية وللرصاص. لم يعرف الطبيب من أين يبدأ ولا كيف سينتهي. تسعٌ وعشرون إصابة في هذا الجسد؛ الحوض شبه متهتك؛ الفخذ والساق والقدم والظهر والبطن كلها متضررة. جرح الشاب نتيجة إصابة منزله بقذيفة مدفعية. لم يسعفهم حبهم كي ينقذوه، إذ لم تمنحهم الشظايا فرصة لتقديم العلاج؛ مات قبل أن يتم الثلاثين.
الإسم: ميزر. إسم الأب: محمد. إسم الأم: نجاح. تاريخ الولادة: 2981983.
إكتشف الطبيب أنّ هذا الشاب الحنطي الذي تغطى بالأحمر القاني هو جاره. يسكنان في الحي نفسه منذ الصغر. ولد ميزر في حي يقع وسط مدينة دير الزور ودرس حتى الصف السابع الإعدادي، ثم بدأ حياته المهنية في فرن والده. كان شقياً ومهملاً في المدرسة، عنيفاً بعض الأحيان. ككل المراهقين، كان يدخن مع أصدقائه في زوايا الشوارع ويشرب خلسةً كأس عرق في منتصف الليل بعد أن ينام أبوه. عمل في الأشهر الأخيرة كالكثير من شباب دير الزور في الإغاثة وإسعاف الجرحى ودفن الموتى.
هذا “المشفى – البيت”، كمعظم المشافي الميدانية في دير الزور، لا يحتوي إلا على القليل مما تحتاجه العيادات ناهيك عما تحتاجه المشافي: مسكنّات، مشرط، وكحول طبي. لم يتدرب طبيب من قبل على هذه الأدوات الفقيرة لينقذ بها الأرواح. تمكن الطبيب خلال الأشهر الماضية من إسعاف بعض الجرحى. كانت إصاباتهم قابلة للعلاج بدون جراحة. مات في هذا “المشفى– البيت” أحد عشرمصاباً وسُجلوا شهداء ووُثقوا بكاميرا الهاتف المحمول. لم تتدرب الفتاة التي حاولت مع الطبيب إنقاذ حياة ميزر على مواجهة كل هذا الموت.
توجد الكثير من المستشفيات الميدانية في دير الزور. هناك مشفى في كل حي تقريباً وكل هذه المشافي تعمل في الظروف وبالأدوات البدائية نفسها. وفي كل مشفى يوجد عدد من الأطباء، والكثير من الشباب المتطوعين الذين لا يملكون خبرة في هذا المجال، لكن هدفهم المساعدة.
أعرف كليهما، الطبيب والشاب. كنا نسكن في الحي نفسه ونذهب إلى المدرسة نفسها. درس صديقي، وهو شاب أسمر نحيل في منتصف الثلاثينات من عمره، الطب في جامعة دمشق. أصبح طبيباً ميدانياً لاحقاً وقرر البقاء في دير الزور لأسباب إنسانية.
بكى صديقي وهو يحدثني على الهاتف. سألني: “هل أنا مقصر؟ لم أستطع فعل أي شيء،” ثم أغلق الخط.
كلنا مقصرين وكلنا رهن كاميرا هاتف محمول، في أي لحظة، وفي أي مكان، لنكون شهداء في مثل هذا البيت أو غيره في سورية.