أبحث عن أبي بين صور الضحايا

أم تزور قبر ابنها الذي قضى بقصف الطائرات على حلب عام 2015.تصوير مجاهد أبو جود

أم تزور قبر ابنها الذي قضى بقصف الطائرات على حلب عام 2015.تصوير مجاهد أبو جود

منذ ثلاث سنوات، بدأ والدي يزورني في الحلم دوماً… يطمئن عليّ ثمّ يرحل، كما رحل إلى المجهول أخر مرة.

تغصُّ ذاكرتي كلما حاولت تذكُّر يوم الرحيل، فالأوجاع كبيرة والقلب متعب. أحاول النسيان والإندماج في هذه الحياة من دون أبي، لكنّي أفشل، وكأنه كابوسٌ أنتظر أن أصحو منه.

عند آذان المغرب من يوم 24 تموز/يوليو من العام 2013 والذي كان يصادف 16 من شهر رمضان، داهمت قوات تابعة لجيش النظام مع عناصر من اللجان الشعبية منزل نزوحنا في بلدة بلودان قرب مدينة الزبداني.

كانت والدتي في زيارة إلى لبنان، عند إخوتي الشباب. فلدي أخان هربا إلى لبنان، بعدما خرجا من معقتل النظام. وأنا وأخواتي الخمس في المنزل مع والدي، وأصغرنا كان عمرها 12 عاماً.

صباح ذاك النهار، لاحظت القلق يعتلي وجه والدي… وجهٌ أسمر، متعب، مُنهك من هموم الحياة. حين جلسنا على مائدة الإفطار، لم يأكل سوى لقمتين واكتفى! سألته عن السبب فقد كان صائماً طوال النهار. أجاب بالقول: “أخبرني اليوم صديقي أنّ الأمن يراقب المنزل، ويُتوقَّع أن يأتوا ليعتقلوني”.

رميت اللقمة واعتراني الحزن… ترجّيناه أنا وأخواتي أن نهرب برفقته، فرفض واعتبر أنّ ذلك يشكّل خطراً علينا.

وبعد دقائق، دُقَّ باب المنزل بشكل مخيف! كانت ضربات قوية ومتسارعة…

فتحتُ الباب، وإذ بقوة عسكرية ضخمة تحاول الدخول وتسأل عن والدي… حوالي 15 عنصراً أتوا لاعتقال رجلٍ خمسيني!

أمسكوا أبي مباشرة، فتّشوا البيت بكل زاوية فيه، حتى الدمى داسوها بأقدامهم ودنّسوا أغطيتنا… وضعونا أنا وأخواتي في غرفة واحدة، وأغلقوا الباب علينا… قلبوا البيت رأساً على عقب…  بقوا في المنزل حوالي نصف ساعة… نصف ساعة من الرعب والخوف والبكاء.

حاولنا بصراخنا أنا وأخواتي، أن نردهم عن اعتقال أبي… رجوناهم! إلا أنّهم كانوا يصرخون علينا ويُشهِرون أسلحتهم بوجوهنا… وكان أحدهم يقول: “إبقوا في الغرفة، كي لا نقترب منكن”.

كانت تلك الجملة تخيفنا كلما حاولنا ردَّهم… فنتراجع عن المحاولة، لنعاود الصراخ مجدداً بعد دقيقة أو أقل…

لم تكن المرة الأولى التي يُداهم فيها الأمن المنزل ويعتقل أبي… بل سبق واعتُقل أربع مرات، وكانوا يفرجون عنه بعد أسابيع. فهم يعرفون أنهُ لم يقترف أي ذنب!

اصطحبوا معهم والدي وخرجوا من المنزل… تركوا وراءهم خراباً وكأنّ المنزل قد اجتاحه طوفان.

مضت أيام، وكان الخوف يسكننا… منزل بدون أمي وأخوتنا الشباب، وبدون أبي… فلم نستطع النوم بعدها أنا وأخواتي، إلا بعد وضع الخزائن الخشبية والكراسي خلف الباب، خوفاً من وحوش جيش الأسد وشبّيحته (في إشارة إلى جيش النظام التابع للرئيس بشار الأسد واللجان الشعبية).

مضت عدة أشهر لم نسمع عن والدي أي خبر، ولم نعرف له أي درب… وكل شيء بدأ يتغير…

كانت قد عادت أمي من لبنان… بدأ الجيران والأقارب يتخوفون من زيارتنا ومن سؤالنا عن  أبي… ذلك لأنَّ بلدة بلودان التي كنا قد نزحنا إليها، غالبيتها فضّلت أن تنأى بنفسها، وتؤيد النظام… وهي المعروفة بالأصل كمصيف سياحي.

وكان في بلودان بعد الثورة، مرتعاً للجان الشعبية… وهي ميليشيا مسلحة من أبناء البلدة لها حق المداهمات والإعتقالات والسرقة! فالرواتب التي يتقاضونها قليلة، وبالتالي يعتمدون على ما يجنونه من المداهمات.

وبعد عدة أشهر اشتدت المداهمات على بيوت النازحين في بلودان. وكانت تتم تلك المداهمات أثناء انقطاع الكهرباء مساءً من السادسة حتى منتصف الليل… كانت تلك الساعات الست يومياً تمر وكأنها دهر.

لا أنسى في إحدى الليالي المخيفة، وفيما الكهرباء مقطوعة، سمعنا أصوات رجال الأمن واللجان يداهمون شقة قريبة تسكنها ثلاث عائلات من الزبداني… كنا نسمع بكاء الأطفال والنساء، ونتجمّد بمكاننا متجمعين حول أمي. أمي التي تظهر لنا تماسكها وقوتها، فيما هي ضعيفة جداً وأكثرنا خوفاً.

ثم عاد الأمن ليداهم منزلنا من جديد، بتهمة مساندة الثوّار. فأخوَي لهما أنشطة ثورية سلمية، الأول إعلامي، والثاني يساعد بتوزيع الغذاء لأبناء الشهداء والفقراء في البلدة، ولم يكونا يسكنان معنا.

فيما تهمة أبي كانت، أنهُ لا يتوانى عن المشاركة في توزيع الإعانات، فعمله سلميٌ لمساعدة النازحين. وكذلك كان يكتب قصائد الرثاء للشهداء، وهذا ماعثروا عليه عند اعتقاله في المرة الأخيرة!

تحت جناح الظلام في إحدى الليالي، قررنا الفرار.

فبعدما تلقينا الكثير من التهديدات من شبّيحة النظام، هربنا إلى لبنان حيث كانا أخواي قد جهّزا لنا بيتاً لاستقبالنا في مطلع العام 2014.

وبعد عامين من وجودنا في لبنان، حصلنا على حق اللجوء الإنساني إلى إحدى الدول الأوربية. فيما أبي ما يزال مجهول المصير حتى اليوم، ولا نعلم إن كان حيّاً في المعتقل أم قتلوه.

عندما نشرت مواقع التواصل الإجتماعي آلاف الصور لأشخاص ماتوا تحت التعذيب في معتقلات النظام، تصفحت تلك الصور… كنت أبحث عن والدي  بينها لأيام وأيام… أحتفظ بالصور على جهازي، أتصفحها جميعاً وأتأملها مرة ومرتين وثلاثة، الصورة تلو الأخرى… علّني أعرف إن كان أبي قد أصبح عند الله شهيداً، لكني لم أجده في أي صورة!

حتى اليوم ما يزال مصير أبي مجهولاً، كما مصير كثيرين غيّبتهم سجون النظام. وما يزال يزورني في الحلم، ويطمئن عليّ يومياً… فهل يعود يوماً، وأطمئن عليه وجهاً لوجه؟!

نور أحمد (26 عاماً) من مدينة الزبداني، تخرّجت من المعهد الهندسي في دمشق. تعمل كصحفية لصالح عدة وكالات إخبارية، إلى جانب عملها كمعلمة للأطفال السوريين في لبنان. بدأت نشاطها الثوري منتصف العام 2012 كمحررة وكاتبة لمجلة أوكسجين الصادرة من الزبداني