من تبقى من يهود دمشق يحيّد نفسه عن الأزمة السورية

راحيل ابراهيم*

في بيت متواضع متآكلة جدرانه في حي الأمين في دمشق القديمة تسكن الأختان فردوس وسيلا، وهما من اليهود القلائل الذين لم يغادروا سوريا رغم تجاوزهما الستين من العمر، وهما الوحيدتان اللتان لا تزالان في الحي، الذي كان تاريخياً يضم يهود دمشق بالإضافة إلى الحي اليهودي وحي القشلة في المدينة القديمة. لا تنوي الأختان مغادرة دمشق، مع أن كلام فردوس يوحي بأن انتماءها الديني يجعلها تعزل نفسها.

فعند سؤالها عن علاقتها مع جيرانها السوريين، وهم مسلمون، تقول “أنا سعيدة، ولا أريد أن أسافر، نحن ولدنا هنا،

لكنني لا أخرج كثيراً فنحن يهود.”

أحد المباني في حارة اليهود في دمشق القديمة - صفحة "يهود سوريا" على فيس بوك
أحد المباني في حارة اليهود في دمشق القديمة – صفحة “يهود سوريا” على فيس بوك

لا أعداد معلنة عن اليهود الذين لا زالوا يعيشون في سوريا، حيث لا تنشر الحكومة السورية أي إحصاءات عن التوزيع الطائفي للسكان، إلا أن تقارير تشير إلى أن معظم من تبقى من اليهود السوريين، والذين كانوا يسكنون دمشق وحلب والقامشلي، غادروا البلاد بعد أن رفع عنهم حظر الهجرة العام 1992. حالياً، يقول سليم (اسم مستعار) وهو شخص بارز في الطائفة، إن هناك 15 يهودياً فقط في دمشق، معظمهم من كبار السن. بعد موجة الهجرة الأخيرة، أصبحت المتاجر التي كانت تعج بالحياة في الحي اليهودي مقفلة أو مؤجرة لغير اليهود، فاختفت حوانيت الصاغة والنقش على النحاس والفضة، كما أقفلت ورش خياطة الملابس الجاهزة التي كانت تستقطب زبائن من جميع المحافظات السورية.

ويمارس من تبقى من يهود دمشق طقوس العبادة والأعياد يوم السبت في المعبد الواقع بحارة اليهود. لم يعد لليهود حاخامات في دمشق، لذا تتم الصلاة بغياب الحاخام، أما في ما يتعلق بالذبح، يقول سليم: “نقوم بإحضار حاخام من تركيا للقيام بعملية الذبح، ولاحقا تباع هذه اللحوم لليهود فقط”.

ويوضح سليم أن مسؤولية التصرف ببيوت اليهود التي هاجر أصحابها تعود إلى “مؤسسة أملاك اليهود”، وبعضها تم تأجيرها للسوريين من غير اليهود، كما منح بعض هؤلاء ممن ترك سوريا رئيس الطائفة حق التصرف بعائدات هذه العقارات لترميم المباني اليهودية العامة مثل المعابد ومدرسة إبن ميمون، التي كانت تقدم التعليم العادي والديني، والتي فرغت من طلابها بعد الهجرة الأخيرة لتصبح اليوم مكتباً لرئيس الطائفة.

وكان رفع الحظر عن الهجرة هو الإجراء الأخير المتبقي من الإجراءات الرسمية التي تميز اليهود عن باقي السوريين، والتي بدأت بالزوال منذ السبعينات، مثل وسم بطاقات هويتهم بكلمة “موسوي”، وهو الاسم الرسمي للطائفة، باللون الأحمر. وخلال تاريخ سوريا المعاصر كان اليهود عرضة للشكوك حول ولائهم لإسرائيل، وكان أبرز حادث تعرضوا له على خلفية الصراع العربي- الاسرائيلي، هو تفجير كنيس دمشق في العام 1949.

فضّل اليهود الذين قبلوا بالتحدث إلى موقع “دماسكوس بيورو” عدم الخوض في السياسة، واكتفوا بالتعبير عن حزنهم لما يجري وتضامنهم مع باقي السوريين في أزمتهم.

وحده سليم يطلق العنان للسانه، فهو يفتخر بأنه يهودي ويعلنها صراحة أينما ذهب، ويروي أنه عندما يصل حاجزاً للجيش السوري الحكومي يقول “أنا يهودي”، فيعبر بسهولة مع ابتسامة متبادلة ما بينه وبين العسكري، ويعقّب قائلاً: “ربما لو كان حاجزاً للجيش الحر لقتلني”، لكنه يتحفظ عن الإجابة لدى سؤاله إذا كان يناصر النظام أو يعارضه.

لم تسجّل حتى الآن أي حالات استهداف يهود من قبل أي من طرفي النزاع في سوريا، إلا أن المعبد اليهودي في ضاحية جوبر الدمشقية، والمعروف أيضاً بـ “مقام الخضر”، تعرّض للقصف والنهب في شهر نيسان/ أبريل جراء القتال بين قوات المعارضة والقوات الحكومية.

على رغم صغر حجم الطائفة اليهودية، وهول الأزمة التي تمر بها سوريا، يبقى لهذه الطائفة مشاكلها الداخلية المعقدة. إذ يتهم سليم رئيس الطائفة الموسوية في دمشق ألبير قمعو، المقيم بحي القشلة في دمشق، بالفساد في إدارة شؤون الطائفة وتفرّده بجميع المناصب.

ويقول سليم إن قمعو يخالف قرار مجلس الوزراء الصادر في العام 2006 الذي يشير إلى تعيين أشخاص محددين في مواقع إدارية في الطائفة.

يقول سليم: “رئيس الطائفة يقوم بتسيير أمورها بصورة سرية فهو المحاسب وأمين السر وأمين الصندوق”، مشيراً إلى أن قمعو يقوم بجميع المعاملات المالية دون الرجوع إلى أي من الأعضاء.

توجهت مراسلة “دماسكوس بيورو” للحديث مع ألبير قمعو رئيس الطائفة اليهودية لكي يرد على الاتهامات الموجهة له، ولكنه رفض التحدث قائلاً إن “أوامر جاءت بعدم إعطاء أي تصريح أو حديث للصحافة تحديداً في هذا الوقت”، دون الإدلاء بأي تفاصيل أخرى.

لاحقاً علم موقع “دماسكوس بيورو” من سليم أن ألبير قمعو، باعتباره ممثلاً للطائفة اليهودية في سوريا، هو بحاجة إلى موافقة أمنية للإدلاء بأي تصريح، وأيضاً قال جيران قمعو إن صحفياً أجنبياً قدم منذ فترة للتحدث معه ولكنه رفض.

يبدو أن من تبقى من يهود في دمشق الى الآن منغلقون على أنفسهم، متخوفون من الحديث مع الغرباء. سيلّا ولدت وعاشت في دمشق، لكن يبدو أنها لا تعلم الكثير عن العالم الخارجي، فخروجها من المنزل لا يتجاوز الذهاب إلى بائع الخضار المجاور، كما ترفه عن نفسها بالجلوس أمام عتبة الباب والنظر إلى المارة. لا تتردد سيلّا بالقول “أريد خاتم ذهب هدية في المرة القادمة التي تأتي بها إلينا”، فهي لا تعلم أنّ اسعار الذهب قد طالت عنان السماء في ارتفاعها.

* راحيل إبراهيم هو اسم مستعار لصحافية تعيش داخل سوريا