ملجأ المرضى النفسيين في سوريا مشفى وحيد
مشفى تشرين الجامعي للمرضى النفسيين تصوير ياسمين العلي
"اخبرني الطبيب ان حالتي تتدهور، انا لا انام تقريبا، اشعر بالقلق والخوف من شيء لا أعرفه، أعتقد انني سأجن قريباً""
يتوجه عزام (24 عاماً) صباح كل اثنين الى العيادة النفسية التي افتتحت في مشفى تشرين الجامعي مع بداية العام الحالي، يجلس في الردهة منتظرا مع العديد من العسكريين والمدنيين من أعمار مختلفة دور جلسته العلاجية.
آلام في البطن يصاحبها صداع مزمن وخدر في الاطراف دفعت عزام للتوجه الى العيادة الهضمية في المشفى بحثاً عن علاج. حوله الطبيب هناك الى العيادة العصبية والنفسية “مشكلتك ليست هضمية، انت تعاني من متلازمة الكرب ما بعد الصدمة”.
تعب عزم لاقناع العقيد المشرف على قطعته العسكرية للسماح له بالحضور. العيادة لا تفتح ابوابها سوى يوم واحد في الاسبوع، ينحشر فيه المراجعون ليحصلوا على جلساتهم المقررة من قبل طبيب واحد يعاينهم على عجل.
“اخبرني الطبيب ان حالتي تتدهور، انا لا انام تقريبا، اشعر بالقلق والخوف من شيء لا أعرفه، أعتقد انني سأجن قريباً”. كلمات قليلة يمكن ان تلخص حالة عزام كما يراها من وجهة نظره، لكنها في الحقيقة مشكلة عدد كبير من المقاتلي الذين يعانون من اضطرابات نفسية عديدة سبّبها وجودهم الطويل على الجبهات هنا وهناك، رؤيتهم لمشاهد العنف و الأشلاء و الدم او انخراطهم في قتال لم يتخذوا التدريبات اللازمة لخوضه.
تطوع رمّاح ( 21 عاماً) للقتال مع ميليشيا صقور الصحراء منذ عامين تقريبا، تدرب على عجل، وذهب إلى نقطته الواقعة في ريف اللاذقية الشمالي. يعاني رمّاح حاليا من فقدان السمع في أذنه اليسرى بعد انفجار صاروخ غراد سقط بقربه، يرافق رماح عزام الى بعض الجلسات لمجرد الصحبة، لكنه أشد رباطا منه، واكثر تماسكا.
يقول رماح: ” يخجل بعض العسكر من إخبار اصدقائهم انهم يترددون على العيادة النفسية، حتى انني عرفت قصة عزام صدفة عندما توجهنا معا الى المشفى للمعاينة، اعتقد اننا جميعا نعاني من اضطراب نفسي ما، فمن غير المعقول ان نتواجد باستمرار على خطوط النار دون ان نتأثر نفسيا بذلك، على اعتبار اننا نقر ان اجسادنا تعبت وتهالكت بعد هذا القتال الطويل”.
يضحك ربيع، طبيب العيادة النفسية بمشفى تشرين عند سؤاله عن خطورة وضع هؤلاء المقاتلين نفسيا. ويقول”هم ليسوا مجانين كما يظنون ويسألون، انهم يأتون الينا ولا يعرفون بالضبط ما يعانونه، وهنا يأتي دورنا بتشخيص المشكلة ومحاولة ايجاد حل لها”.
يستهلك كل مريض قرابة 15 الى 20 دقيقة في جلسته التي تتضمن دردشة بسيطة، تندرج ضمن برنامج علاجي يحدده الطبيب، على حسب شدة اصابة كل مريض. “هناك بعض المقاتلين الذين يقضون جلساتهم بالبكاء” يقول ربيع.
بعض الحالات تعاني من اكتئاب شديد بسبب شدة الحرب والضغوطات، لكن عدم انتشار ثقافة العلاج النفسي بين هذه الفئات، وسوء الوضع على الجبهات، وعدم التعاطي الجيد من قبل القيادات مع المقاتلين المصابين، تجعل التفكير بمراجعة العيادة أمرا شبه مستحيل او غير وارد للكثيرين، وفق ربيع.
في تقرير نشره معهد «بروكنجز» الامريكي العام الماضي، رصد خلاله تقارير المنظمات المختلفة عن الصحة النفسية للسوريين داخل سوريا وخارجها، ومدى تأثرها بالحرب في الداخل السوري، يشير التقرير أن” المرض النفسي ينهش عشرات الآلاف من المتقاتلين في سوريا، مع انعدام وجود المشافي الا مستشفى نفسية وعقلية واحدة ، نصف العاملين بها تركوا البلاد” . ارقام يجدها الدكتور ربيع معقولة جدا، نظرا لارتفاع معدل الحالات التي تتردد على جامعة تشرين بحثا عن علاج لصدمات نفسية، ظهرت أعراضها بعد اندلاع المواجهات المسلحة في سورية.
عند الزاوية البعيدة في ردهة الممر بالمشفى، تحاول ام ميسم ( 63 عاماW) اشغال نفسها ريثما يأتي دورها بين المراجعين للعيادة، فتارة تتجاذب اطراف الحديث مع ابنتها زينب، وتارة اخرى تسترق لحظات للنوم مسندة رأسها على الجدار القابع خلفها.
لا تحب ام ميسم الحديث مع الغرباء، او اصبحت كذلك على حد تعبير زينب، التي اكدت ان والدتها لم تكن هكذا، لكن خسارتها لأبنائها الثلاثة على جبهات درعا وريف حلب، جعلت تقبلها للحياة امرا شبه مستحيل.
“لم نكن ندري أنها مصابة باكتئاب، لكن نشاطها اليومي في المنزل اختفى تقريبا، واصبح لديها تعب دائم، كما ان تفاعلها الاجتماعي اصبح شبه معدوم”، تستطرد زينب الحديث عن حالة والدتها التي عارضت في البداية الذهاب للعيادة ، لكن الحاح بناتها جعلها ترضخ للامر مكرهة>
وتضيف زينب “اعتقد ان قدومها الى هنا أمر جيد، مجرد رؤيتها لسيدات فقدن أولادهن ويعانين مثل ما تعانيه يجعل تقبل الامر اسهل بالنسبة لنا ولها”.
ميرنا طالبة ماجستير تتخصص بدراسة الطب النفسي، تولي حالة ام ميسم عناية خاصة، فاكتئابها من النوع الشديد، كما ان الأدوية تسبب لها حالة من الركون، لكن في الوقت ذاته تتفاءل ميرنا بتحسن حالة ام ميسم، لأن ذويها يتابعونها بشكل حثيث لتلتزم بالعلاج الدوائي الذي وصفه الاطباء.
تقول ميرنا “للدواء دور في تعديل مستوى النواقل العصبية المتغيرة لديها، لكن كل ذلك يحتاج وقتا وصبرا للوصول للنتيجة المرجوة”. تؤكد ميرنا ان مشفى تشرين الجامعي هو الجهة الرسمية الوحيدة التي تقدم خدمة الجلسات النفسية.
“كان مشفى الاسد الجامعي معنيا بهذا المجال سابقا ، لكن تحويله لمشفى عسكري متخصص باستقبال الاصابات المزمنة للمقاتلين جعل الامر محصورا بهذا المكان فقط”. تتابع ميرنا التي لا تعتقد ان المشفى يقدم العلاج المطلوب لمثل هذه الحالات، لكن مجرد مواظبة المرضى على القدوم وان كان بالحد الادنى يجعل الامل بشفائهم موجودا.
تتابع ميرنا “”نحاول اخبارهم دائما ان اهمال حالتهم سيزيد الطين بلة، اهمال علاج الصدمة والاكتئاب يمكن ان يدفع المريض لإيذاء نفسه والإقدام على الانتحار في نهاية المطاف، هم يحتاجون ايضا دعما نفسيا اجتماعيا لا يوفره المشفى، كما ان الفرق الأهلية التي تقدمه بعيدة عن المهنية والاحترافية”.
وترى ميرنا ان الخدمات التي توفرها العيادة لمرضاها غير كافية او فقيرة ان صح التعبير، “صحيح ان الوضع في العيادة سيء ولا يوجد خصوصية بين الطبيب والمريض الذي يروي حكايته امامنا كطلاب ماجستير، لكن هذا ما هو متاح الآن، ولا يوجد امكانية لأفضل مما كان” تضيف ميرنا لتسرع باتجاه ام ميسم التي حان وقت جلستها العلاجية.