قتلتهُ وسيلة هربه!
كانوا يحملونه على الأكتاف منادين بأعلى أصواتهم، هاتفين لروحه “على الجنة رايحين شهداء بالملايين”. صوت غاضب يتوق للحرية والإنعتاق من ظلم نظام الأسد… فيما عائلة الفقيد من خلفهم تشارك الهتافات بكلِّ ألم وحسرة.
كانَ ذلك في يوم إثنين من شهر أيار/مايو 2012. كنتُ أقف في مقدمة المشيِّعين، ومن خلفي حشد كبير من النسوة المتشحات بالسواد. لا يظهر منهن سوى عيونهن، وبعضهن جعلن من علم الثورة غطاءً لوجوههن، خوفاً من وجود مخبرات بين النساء، من اللواتي يعملن لصالح النظام. فيلتقطن الصور على حين غفلة، ليتم التعرف على هوية المشاركات في التشييع واعتقالهن في ما بعد.
المخبرون كثر، وهم السبب الرئيسي باعتقال العديد منا. لا سيما الشباب الذين كانوا يخرجون مكشوفي الوجه، خاصةً في بداية الثورة. والمخبر أو المندس يكون من أهل المدينة، إمّا مختار حارة أو أحد أبنائه أو أحد عمّال النظافة، أي ممن يعملون في وظائف حكومية. بات جميعنا يعرفهم ويتحاشى الحديث إليهم، إلا أنه من الصعب التخلص منهم وإيقافهم عند حدهم.
في جنازة هذا الشاب، لفتني أنَّه يشيَّع لمثواه الأخير وحول عنقه يلتف حبل من الليف! منظر يدمي القلب، ما تزال صورته محفورة في مخيلتي، بعدما رأيته حين أنزله رفاقه عن الأكتاف، لتُلقي عائلته عليه نظرات الوداع الأخيرة. لم تتمالك الأم نفسها وانهالت على وجه ابنها بالقبلات ودموعها تسبقها إلى وجهه. لم يتمالك أحد نفسه، وبتنا جميعاً نبكي، رجالاً ونساءً وحتى الأطفال.
سألت نفسي: ما قصة ذلك الحبل العريض الملتف حول عنقه؟ هل قاموا باعتقاله وإعدامه شنقاً أم أن هنالك قصة أخرى؟ فالشاب لم يستشهد خلال مظاهرة، لكنه قُتل من دون دماء، لكن كيف؟
بعد مضي نحو ساعة على الجنازة، التقيت بصديقتي هالة بعد اتفاق بيننا بأن نجتمع في مكان قريب من مكان التشييع. بدا ظاهراً على صوتها اللهاث، وعيوننا كانت ما تزال معلقة بجثمان الشهيد وعائلته. لكن ما إن استعادت صديقتي شيئاً من قوتها، حتى انهلت عليها بالأسئلة حول مدى معرفتها بقصة ذلك الشاب. باعتبار أنها على علاقة وثيقة بإحدى قريباته. وسألتها: ما قصة خيط الليف؟
أخبرتني صديقتي أنَّ ذلك الشاب، منذُ بداية المظاهرات في المدينة، وهو يتقدم الصفوف الأولى هاتفاً ضد نظام الأسد للمطالبة بإسقاطه. وعلى الدوام، كانت ترافقه كاميرا هاتفه المحمول، التي توثق ثورة الشعب ضد حاكمه.
في بادئ الأمر كان يشارك بتلك المظاهرات وهو سافر الوجه، لكن بعد موجة الإعتقالات التي كانت تعقب كل مظاهرة بات يتعمد إخفاء وجهه كي لا يتعرف عليه أحد.
وقالت صديقتي، أنَّ الشاب بات معروفاً بنشاطه الإعلامي على شبكات التواصل الإجتماعي، وبات الخطر يلاحقة في كل مكان يذهب إليه. فقد داهم الأمن منزل عائلته لأكثر من مرة، ولم يكن موجوداً في المنزل عند أي مداهمة.
بعد محاولات اعتقاله، بات مضطراً للتنقل من مكان إلى آخر، وصارَ يغيّر مكان إقامته في كل مرة يشعر فيها بالخطر، حتى أتى ذلك اليوم المشؤوم.
مداهمة مفاجئة لعناصر فرع المخابرات الذين يرافقهم بشكل دائم قوات من الجيش النظامي، كانت خطة الشاب للهروب من المنزل الذي يقطن فيه، ربط حبل طويل من الليف، يمتد داخل ما يُسمّى بـِ “مَنور البناء” (شرفة صغيرة وداخلية على طول البناء) أو على شرفات داخلية لا تطل على الشارع الرئيسي لتسهيل عملية الهروب… فيتسلّق ذلك الحبل نحوَ أعلى البناء، أو ينزل من خلاله إن كان فراره نحوَ الأسفل. هي خطة مجرَّبة وناجحة… وكان يطمئن إليها الشاب، هذا ما سمعَته صديقتي من قريبة الشهيد.
عرفَ أحد المخبرين بمكان إقامته، فقام بالتبليغ عنه لفرع فلسطين، وهو أحد الفروع الأمنية في العاصمة دمشق. قاموا بمداهمة المنزل الذي يقطن فيه، مع قوة كبيرة من العناصر المدججة بالسلاح، كأنهم على جبهة قتال… كل ذلك من أجل اعتقال شخص واحد غير مسلّح! حينها، بدأ بتنفيذ خطة الهروب المُحكَمة. توجَّهَ إلى إحدى تلك الحبال التي يربطها في “منوَر البناء”، لينجو بنفسه… لكنَّ القدر والموت كانا أسرع من أيدي النظام. بينما كان مسرعاً للنزول مستخدماً الحبل، التفَّ الحبل حول عنقه وانكسرت رقبته على الفور!
تدلّى جسده المعلق بين السماء والأرض وسارعت روحه الطاهرة للإرتقاء نحو السماء. يا لهُ من مشهد مؤلم، لشاب قتلتهُ وسيلة هروبه!
لم تكن تلكَ النهاية… فعناصر النظام قاموا بسحبه واعتقلوا جثمانه ليومين! والعائلة لم يُسمَح لها باصطحاب جثمان ابنها إلى المنزل لوداعه لليلة كاملة، بل أمرهم عناصر الأمن بأن يدفنوه فورَ تسلمه من المعتقل!
حال ذلك الشاب كحال الكثير ممن قضوا في هذه الحرب. تختلف حكاياتهم، لكنّ النهاية تبقى واحدة.
مرام سعد (24 عاماً) ولدت في إحدى مدن الغوطة الشرقية في ريف دمشق. متطوعة في الهلال الأحمرمنذ 6 سنوات. خلال الثورة كانت متظاهرة ومسعفة ميدانية وناشطة إعلامية من العاصمة دمشق، عملت مع عدة وكالات إخبارية محلية. مرّت بأوقات صعبة خلال إسعاف المصابين أعنفها وفاة والدها بين يديها عام 2014 بعد نزوحهم إلى مدينة دمشق.