في الغوطة “المحررة”: شرطة ودفاع مدني ومجلس لمراقبة “الجيش الحر”
“يِلّي ما عنده ألماني، يشتريلو ألماني.” بهذه العبارة المصحوبة بضحكة كبيرة عرّفني أبو عمر، وهو قائد كتيبة في “الجيش الحر”، بقائد شرطة المنطقة الواقعة على أطراف الغوطة الشرقيّة (رفض المشاركون في المقابلات ذكر اسم البلدة). كجميع المعارضين المدنيين والعسكريين هناك، يحمل “الألماني” إسماً مستعاراً لإخفاء هويّته، خصوصاً عند استعمال الأجهزة اللاسلكية، التي يسهل التقاط إشارتها من قبل قوات النظام. وكثيراً ما يخرق أحد الطرفين إشارة الآخر، فيقضي العناصر من الطرفين سهرات طويلة يتبادلون خلالها الاتهامات والشتائم وفي أحيان كثيرة النكات والأغاني السياسية.
“الألماني”، الذي كان قبل الثورة موظّفاً حكومياً لا تعنيه إلّا هموم يومه، يقود اليوم قوة من الشرطة المحلية تشكلت بعد هروب قوات الشرطة النظامية عند سقوط المنطقة بيد “الجيش الحر” في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2012. لا يمتلك الألماني مكتباً، فبيوت الأهالي تستقبله بالترحاب، كما أنه لا يحتاج هو أو أعضاء مجموعته من المتطوعين إلى زي موحد كي يتعرف عليهم السكان.
يقود “الألماني” كذلك كتيبة الدفاع المدني، التي كانت الغوطة الشرقية سباقة إلى تشكيلها من بين المناطق الأخرى التي يسيطر عليها “الجيش الحر”.
“أتينا بصهاريج لإطفاء الحرائق ولتوزيع المياه على الناس، وآليّات لرفع الأنقاض وإنقاذ الأهالي عند القصف بطائرات الميغ، ورافعات لتوصيل الكهرباء،” يقول “الألماني”، مضيفاً أن الكتيبة تقوم أيضاً بنقل الجرحى إلى المشافي الميدانية، ونقل الأهالي إلى أماكن آمنة عند القصف.
و”الجيش الحر” أيضاً يحتاج إلى شرطة
عند ظهور “الجيش الحر” في المنطقة، بدأت تنتشر الشكاوى ضد عناصره على صفحات فيس بوك وحتى على لافتات التظاهر. فقد شاع أن هؤلاء يقومون باعتقال المشتبه بتعاونهم مع النظام بشكل عشوائي، وسوقهم إلى التحقيق بوضعهم في صناديق السيارات، أو “الطبّونات” كما تعرف باللّهجة المحلية. كما اتُّهم بعض العناصر بأنهم يؤخرون الأهالي على الحواجز ويقودون السيارات بتهوّر ويظهرون السلاح بشكل استفزازي، بالإضافة إلى تدخلهم بأعمال الإغاثة، مفضلِّين ذويهم على غيرهم من الأهالي.
هذه الممارسات كانت وراء تأسيس ما يسمى بـ”المجلس العسكري”، الذي انضوت تحت لوائه معظم كتائب المنطقة، وأُسِّس تحت إشرافه سجن لمرتكبي التجاوزات، بإدارة محقّقين وقضاة منشقِّين. كانت قضيّة “كتيبة أبوسلمو” من أولى القضايا التي تعامل معها المجلس وأصعبها، فأفراد تلك الكتيبة، وعلى رغم أنهم من أقوى االمقاتلين في المنطقة، كانوا عرضة لاتهامات بالسرقة والاعتداء، دفعت المجلس إلى نزع سلاحهم بالقوّة، وتوقيفهم قيد التحقيق. وتتم حالياً دراسة قضيتهم بالإضافة إلى شكاوى أخرى، معظمها رفعها الأهالي الذين وضع “الجيش الحرّ” يده على بيوتهم بعد أن نزحوا عنها، فطالبوا بإخلائها بعد عودتهم. وعادة يتم إخلاء هذه البيوت فوراً، باستثناء تلك التي يملكها ضباط النظام والمتعاملين معه، فـ”الجيش الحر” يرى هذه المنازل وكل ممتلكاتهم الأخرى من سيّارات ومبانٍ تجارية وأموال غنائم مشروعة.
“عانينا كثيراً في البداية، معظم الثوّار كانوا سيّئي المعاملة، لكن الشرفاء منهم كانوا قادرين على إحداث تغيير،” تقول أم أحمد. “أنا قمت بالاحتجاج دائماً، وأطالب جيراني بألا يسكتوا عن حقوقهم، نحن لم نهرب من النظام ليقمعنا مسلّح، نحن من دعمناه (“الجيش الحر”) ليدافع عنا، وهؤلاء الذين يغرّهم السلاح ليقمعوا غيرهم، يخونون بلدهم.”
وبعد تشكيل “المجلس العسكري” تم تشكيل “المجلس المدني”، الذي يختص عمله بتنظيم جهازيّ الشرطة والدفاع المدني، ويتولى أمور الإغاثة، التي كانت من اختصاص “الجيش الحرّ” سابقاً.
“بعض من حمل السلاح ظن أنه هو الدولة، ويحقّ له أن يغنم من الناس ما يشاء، هؤلاء ليسوا من “الجيش الحرّ”، وهذه ليست حالة عامّة، هؤلاء مجموعات أرادت أن تحرف مسار الثورة،” يقول أبو جهاد، أحد مؤسسي “المجلس المدني”.
يرى أبو جهاد أن الأمور تغيّرت منذ تأسيس المجلسين المدني والعسكري، إذ بدأت معالم فصل السلطات بالظهور بشكل عفوي. كما اتضح بالنسبة إلى الكثيرين أنّ تسيير الأمور الأهلية هو من شأن وجهاء الأحياء وأهلها الموثوقين، وهي مهمّة تختلف عن مهمة الجيش، فكلٌّ له عمل، وكلٌّ يصلح في مجاله.
يقول حسام، وهو ناشط إعلامي من المنطقة، إنّ الأمان عاد بعد فترة من الفوضى تلت خروج القوات النظامية، وإنّ “الجيش الحرّ” حالياً، بعد تنظيمه في “المجلس العسكري”، يوفر الأمن والحماية، ويقوم بمهام أهلية عديدة.
“يرى العديد أن تجمع “الجيش الحر” في المناطق السكنية هو أمر خاطئ، وهو سبب القصف الذي يعانون منه، لكن هؤلاء أهلنا، وليس لديهم دبّابات أو طائرات يدافعون بها عن أنفسهم،” يقول حسام.
ويشارك حسام رأيه معظم الأهالي المعارضين، إذ تربطهم علاقات قربى وجوار بأفراد “الجيش الحر”. من جهة أخرى، يرى بعض الأهالي أن “الجيش الحر” يستجيب ببطء لمطالبهم، وأن الوضع يسوء باستمرار، ولا بدّ لهم من النزوح إلى مناطق هادئة.
يقول نور، وهو أحد الذين اعتقلهم “الجيش الحر” سابقاً: “يأتي الأمن ويعتقلنا ويضربنا، ويأتي “الجيش الحر” ليحقّق معنا، ثم يأتي النظام ويقصفنا، وكل ذلك بسبب “الجيش الحر”.”
يزفر “الألماني” متعباً بعد سماعه الكثير من هذه الشكاوى ويقول: “الشرطة في خدمة الشعب، والمسؤول هو أكثر شخص توجه إليه الانتقادات؛ هذا هو الوضع الجديد الذي يجب أن نعتاد عليه.”
ينهي كلامه ثم يذهب لتأمين التيار الكهربائي لأحد الأحياء. فغالباً ما يقوم أعضاء الفريق الذي يقوده “الألماني” بمد الأسلاك من منطقة تنعم بالكهرباء إلى أخرى تفتقر إليها، بينما رصاص القنّاصة يترصدهم. يمشي “الألماني” وصوت صافرته المميّز يسبقه، لينبئ أهل الحي أنّ الكهرباء آتية بكل تأكيد.