فراق الأحبّة أشدّ من الموت

امرأة سورية تجلس بالقرب من أبنها الذي قتل بقصف لقوات النظام على أحياء مدينة درعا.

امرأة سورية تجلس بالقرب من أبنها الذي قتل بقصف لقوات النظام على أحياء مدينة درعا.

"فقدت أطفالي باكراً قبل أن يسعد قلبي بهم. مروا سريعاً كحلم بين يديك يا موت تشد خطاهم للغياب بعيداً عني. يا موت لي بين أحضانك أحباب كيف سلبتهم مني؟ "

أعيش مع زوجي وأطفالي في ريف إدلب، يتيمة الوالدين. أخي الوحيد فر بعائلته مع بداية الثورة إلى لبنان. أخواتي مع عائلاتهن فرقتنا الحرب كل في مكان. وزوجي مقاتل مع الثوار .
تزايد القصف بأشكاله وأنواعه على قريتنا، هرب السكان خوفاً من الموت. كان الخوف ينهش قلبي على زوجي المقاتل وأطفالي الصغار. نقلنا زوجي مع بعض الحاجيات اللازمة إلى كهـف قريب من القرية. حاول تجهيز المكان للسكن.
كان الكهف بعيداً عن القرية المصابة بلعنة القصف والموت، ينحدر بعدة درجات نحو باطن الأرض، كبير، واسع، ولكنه مظلم لا مدخل للضوء والهواء سوى ذاك الباب العالي. تعب زوجي في رصف أرضيته وتسويتها بالحجارة والتراب. بعد أيام من خروجنا لحقنا الكثير من العائلات لتصبح الكهوف القديمة مسكن القدماء مسكناً آمناً لنا .
ابنتي الكبيرة في السادسة من عمرها، و أخوها الأصغر أربع سنوات، أما الصغيرة فعامين ونصف العام. وكنت حاملاً بجنيني الرابع. أنقل الماء على رأسي من خزان حديدي وضعه زوجي بأقرب مسافة من المغارة. يساعدني زوجي عندما يتواجد. ويؤمن حاجياتنا قبل أن يذهب للرباط والمعارك. يقلقني وأشعرني بخوف من أن أخسره.
زوجي جهّز المغارة بباب حتى لا أخاف أثناء غيابه. الباب أدخل الطمأنينة إلى قلبي بسبب صوت عويل الذئاب القريب وحفيف الأشجار عدا أصوات الانفجارات من القصف الذي يسبب اهتزاز أركان الكهف.
خرجنا من المنزل الخريف في فصل الخريف، وها هو الشتاء يعلن وصوله ببرده ومتاعبه التي أجهدت جسدي، خصوصاً مع مرض ابني الذي لم تناسبه رطوبة الكهف. ساء وضعه الصحي وبعد جهد مع العلاج تحسن وضعه قليلاً. ولكن حالته ساءت حين استيقظت ليلاً على صوت أناته وشهقاته.
الطبيب أخبرنا أن رطوبة الكهف تؤذيه، وأنه يحتاج لمشفى سريعاً ليوضع تحت المراقبة. اضطررنا أن نتركه مع جدته في المشفى ريثما تستقر حاله. جدّته التي رفضت ترك بيتها متحدية القصف، غادرته بسبب مرض حفيدها. وعدت إلى الكهف اللعين الذي وفّر لنا الأمان لكنه أضرّ بصحتنا.
ليلة تركت ابني في المشفى لم يغمض لي جفن، وكأن العالم بأسره علق بحنجرتي، اقتحم علي وحدتي صوت الآذان من بعيد، اتجهت للماء لأغسل نيران خوف لم يتركني لحظة منذ مرض ابني، أقبلت لخالقي ودعوت يارب لاتتركني.
أذكر حين ذهب زوجي إلى المشفى وقال لي: “سأعود وبرفقتي إبننا لا تقلقي”. رددت عليه بابتسامة ذابلة. وفي ساعات الظهيرة أتى شقيق زوجي ليأخذنا إلى بيت عمي في القرية. شعرت بقبضة داخلي تعتصر قلبي. دخلنا المنزل وكانت الوجوه واجمة، صامتة، حزينة. آثار البكاء واضحة، نظرت بقلق ونطقت دون استيعاب: مات ابني! احتضنتني أخت زوجي بالبكاء وقالت: “إنا لله وإنا إليه راجعون”.
دخل زوجي بـطفلي ملفوفاً بين ذراعيه، ومن خلفه والدته بعينيها الدامعتين. خانتني قواي لم أستطع النهوض لأودع فلذة كبدي. يا موت مابال خيولك تمر قربي هائجة وأوراق عمري على غزوات الأيام لم تنكشف أمامك بعد، فمن تترقب أيضا !
عدت بخيبتي ومواجعي إلى نفس القبر القاتم المميت، بذكرى لم تخمد داخلي ما حييت، ومع وحي الذكرى القاتلة بدأت أشعر بآلام المخاض …
دخلت علي والدة زوجي بـابتسامتها الرقيقة، تحمل بين يديها مولودتي كـأني ابنتها. “الحمد لله على سلامتك يا ابنتي” قالت وأعطتني مولودتي. حلوة كـالعسل، هادئة كـنسمة، مضيئة كـنور القمر، احتضنتها بهدوء وقبلتها بسعادة ورضا. عوضني الله بهذه الهدية الملائكية الجميلة التي سـتخفف عن روحي بعضاً من مواجعها.
أنارت روحي وظلماتها وعتمة الكهف القاتم .يلاعبها زوجي ويكلمها ويضحك لحركاتها الناعمة التي شغلت وقتي وحياتي ولم تتجاوز بعد الشهرين من عمرها، سلبت قلوبنا حبا لها كباراً وصغاراً.
الثلوج كانت تكسو كل ما حولنا. وماهي إلا أيام حتى أذابت خيوط الشمس الدافئة الثلوج، ولكن الجو ما زال بارداً. تركنا زوجي ليرابط على إحدى النقاط. ولم يلبث أن عاد متعبا بارداً، ليغفو على دفء الكهف وقد وقدت المدفئة فيه. ساعات وبدأ يلاعب الأطفال.
كانت علامات المرض واضحة على ابنتي الكبرى فأخذها للطبيب ولم يعد حتى المساء. تركها في بيت جدها لتكون بجو صحي أفضل ويتحسن وضعها بعيداً عن الرطوبة القاتلة .
في الصباح بقي زوجي في المنزل يلاعب صغيرتيه، يحتضن هذه ويقبل تلك حتى أنهكم التعب وناموا جميعاً. أشعلت المدفأة ونهضت بخطوات هادئة لأنهي أعمالي خارج الكهف من غسل ملابس وتنظيف الأواني.
كنت أنقل الماء حين سمعت صوت انفجار جفلت منه. أدرت ظهري لأفاجأ بزوجي يخرج من الكهف وألسنة اللهب تأكل جسده الهزيل. لم أعرف ماذا أفعل لهول الصدمة وركضت نحو المغارة لأنقذ طفلتيّ. وإذا بالنار تمنعني من الدخول، وعلى صرخاتي اجتمع الناس وراحوا يعالجون حروق زوجي الظاهرة على جسده، لكن كيف علاج حروق الروح. فقدت ابنتي بانفجار انبوبة الغاز التي كنا نستخدمها لطهو الطعام داخل الكهف .
عدت لمنزلي وحيدة برفقة زوجي المحترق وأحضرنا ابنتنا المريضة من بيت جدها. فقدت أطفالي باكراً قبل أن يسعد قلبي بهم. مروا سريعاً كحلم بين يديك يا موت تشد خطاهم للغياب بعيداً عني. يا موت لي بين أحضانك أحباب كيف سلبتهم مني؟ وكيف وصلت بلا موعد وتركت روحي في عراء الأنين؟
بالأمس كانوا هنا. ما بين ماض يفرض نفسه علينا ونحاول نسيانه، ولكنه يأبى إلا أن نذكره يحاصرنا وما بيدنا إلا أن نستقبل الحاضر بيدنا محاولين تغييره والتحكم فيه لكنه يأبى إلا أن نتقبله .
بعد أشهر تحسن وضع زوجي وأصبح بإمكانه أن يمشي على عكازين، يخطو كـطفل يتعلم المشي من جديد. أخبرته نبأ حملي وكم فرح وسعد، والآن يمشي متكئا بجسده المتمايل مع جسدي بثقل الحمل ليكون كل منا عكازاً للآخر على نائبات الدهر ولعنة الحرب التي حتى الآن لم تهدأ.
نمضي لإكمال الطريق معا ولا ندري الخفايا ومايخبئ لنا الغيب من أقدار محتومة، منتظرين السلام أن يحل بالنهاية على أرواحنا قبل الأجساد .

فاطمة حاج موسى (25 عاماً) من إدلب، طالبة جامعية في معهد الإعلام .