عدت من الطبقه إلى الحياة
امرأة تعمل في قطاف الطماطم في أحد المشاريع الزراعية بالقرب من مدينة حموريه في الغوطة الشرقية، الصور ملتقطة بتاريخ 01-08-2017.
"بدأت أعود تدريجياً إلى وضعي الطبيعي، إلى انسانيتي التي كدت أن أفقدها، بعد سنين من العذاب والتهجير والظلم."
أحسست يومها بالفرح العارم، لم أكن أحلم سوى بالعودة إلى بلادي، بعد سنين من الغربة التي انهكت نفسي، وأطفالي وزوجي. المناخ الداعشي الذي اعتدنا عليه في ناحية الطبقه، كان له الأثر الكبير في نفسي وعلى طباع أطفالي.
كنا هناك، حيث أمضيت ما يقارب 3 سنوات. كانت حياتنا معزولة عن البشر الطبيعيين. تلك الحياة دفعتني للاعتقاد أن كل ما يعيشه البشر هو حرام. فليس في الطبقه من تلفاز، فهو حرام. ولا تستطيع المرأة أن تخرج إلى الشارع بمفردها، فهذا حرام.
لم يكن هناك من حلال سوى ما حللوه لأنفسهم. الذبح وقطع الأيدي والقصاص والرجم والسبايا. فقد كان هناك مركز السبايا اللواتي احتجزوهن من كل الطوائف. سواء كانت السبيه من الطائفه السنية أو العلوية أو المسيحية وغيرها .فجميعا عندهم تسمى سبية، ويحلّ لاي واحد منهم أخذها دون أي عناء.
لا زلت حتى الآن أعاني مما حدث معي في السنوات الماضيه. وما حدث معي هو أشبه بكابوس أو حلم كئيب استيقظت منه متأخرة. بعد أن عشعش الفكر الداعشي في نفس زوجي وأبنائي.
عندما عدت من الطبقة في اليوم الأول فوجئت برؤية الناس يمشون بالشوارع. الطالبات يعدن من مدارسهن والابتسامه تملأ وجوههن. الحياه الماضية لا زالت كما كانت،عند أهلي وعند جميع أقاربي، إلا أنا وعائلتي قد تحطمت نفوسنا مما عانيناه. رغم أنني أحاول حتى الآن نسيان مارأته عيناي، من مشاهد قتل وتعذيب وبعد عن الله ودينه.
بدأت أعود تدريجياً إلى وضعي الطبيعي، إلى انسانيتي التي كدت أن أفقدها، بعد سنين من العذاب والتهجير والظلم. لم أكن أتوقع أن أعود إلى بلدتي، إلى المكان الذي ولدت فيه، وتربيت وترعرعت. بدأت أستعيد ذكريات طفولتي ناسية ماعانيته، وكلّي أمل أن ينسى أطفالي ما عاشوه ورأوه في تلك البلاد المظلمة.
وبعد أن استأجرت منزلاً وسكنت فيه، ذهبت لكي أسجل أطفالي بالمدرسة, وعندما رأتني المعلمة فوجئت بي وسألتني: “ضحى؟ ألست أنتِ ضحى؟”
أجبتها: “نعم أنا ضحى لكنني لم أعرفكِ”!
قالت لي: “أنا رابعه صديقة أيام الطفولة … لقد كبرنا يا ضحى حتى أننا لم نعد نذكر أصدقاءنا”.
عندها أحسست بشيء يعتصر قلبي. لم أشأ أن أجعلها تحس بحزني الكبير. رسمت ابتسامة صفراء على وجهي. وقلت لها: “نعم يا صديقتي، لقد كبرنا وهمّ تلك الثورة والتهجير والأطفال. لقد تعذبنا أكثر من عمرنا لذلك أصبحنا نبدو أكبر”.
لم أرغب في أن يعلم احد أين كنت أعيش ومع من كان زوجي يعمل. إن علم أحدهم أن زوجي كان هناك فسيقومون بسجنه. مع أن زوجي كان يعمل منقباً عن الآثار فقط. ولكن لا أحد سيصدق هذا الكلام أبداً.
ودّعت صديقتي القديمة على أمل أن القاها في الأيام المقبلة، عندما أحضر لكي اطمئن على أطفالي. كبرت رابعه وأنهت تعليمها. أما أنا، فبقيت في أعاني مع الزمن. تركت دراستي وتركت بلدي وأخيراً تركت نفسي ونسيتها، حتى بدأت أحس أنني في عالم آخر لايشبه عالم الإنسان بشيء.
أصبحت أسعى جاهدة لكي أعلم أولادي. لكي أزرع فيهم حب الحياة، وحب الخير، وعدم إيذاء الناس. فالإنسانية نادرة في مجتمعنا، وليس لها أي دافع سوى التربية. ومن نسي انسانيته سيصعب عليه العيش بهذه الدنيا دون أن يظلم أحداً .
وبسب الظلم الذي رأيته في السنوات الماضية، أصبحت أكره كل امر يتصل بحجز الحريات والاعتقال وتحطيم الآمال.
وبعد أشهر من عودتي غلى الحياه الطبيعية، بدأت أعتاد حياتي الجميلة، التي لا تخلو من أسباب السعادة، سوى غصة تلك الحرب التي لا تفارقنا.
ضحى عباس (40 عاماً) من ريف إدلب، ربة منزل، وأم لخمسة أبناء.