سلاسل بشرية لا تنتهي في اللاذقية
حَرٌّ قاتل ورطوبة عالية ميزت اليوم الأول من شهر آب/أغسطس 2015، لم يكن ينقصنا سوى ارتفاع درجات الحرارة التي رافقتها زيادة في ساعات التقنين بالتيار الكهربائي، وانقطاع طويل لمياه الشرب. ظروف صعبة تكلّلت بإنذارات تسلمها المتأخرون عن سداد فواتير عدادات منازلهم. مع تهديد بوقف الخدمة في حال التهرب من الدفع. نعم نحن متهربون من سداد فواتير خدمة لا تصلنا إلّا بشق الأنفس. لكننا سندفع، ليس حبّا بالقانون الغائب تماماً عن مدينتنا. لكن كرهاً بالدخول في معاملات استعادة العداد، التي ستكلفنا مبلغاً يفوق ما هو مترتب علينا من فواتير، دون نسيان معاملة الموظفين المحترمة للمراجعين، التي تجعلك تفكر جدياً بالهجرة كلما اضطررت للتعاطي معهم.
بخطوات متثاقلة توجهت إلى الصرّاف الآلي. إنّه يوم السبت، عطلة بداية الأسبوع. اعتقدت للوهلة الأولى أنها فرصة مناسبة لأقبض راتبي بعيداً عن زحام الأيام الأخرى. كنت أخطط للتوجه مباشرة في اليوم التالي إلى مراكز الدفع لتسديد ما علينا من فواتير. سلسلة بشرية طويلة تنتظر امامي، أنذرتني أن عملية حصولي على الراتب ستكون بمثابة “المهمة المستحيلة”. تأفُّف النّاس بدا واضحاً. يعلو الصراخ بين حين وآخر، انتهي الأمر بعراكٍ قاسٍ وقع بين رجلين، أحدهما نازح من مدينة حلب، لم يحتمل تصرف “شبيح” (تسمية تطلق على المتعاونين مع النظام) يرتدي بذلة عسكرية. سمح لنفسه بأخذ مكان متقدم عنه رغم انه ينتظر قبله بساعات. “تريدنا أن نقف في الطابور مثلكم؟ نحن نخدم الوطن، واليوم عيد”. ارتفع صوت الشبيح، صمت الجميع، لا يوجد سوى صوت النازح الحلبي الذي خفت رويداً رويداً، عندما وجد أن أصدقاء الشبيح بدؤوا بالقدوم لمؤازرته. وجد نفسه وحيداً وسط مجموعة من “المواطنين” المتفرجين، دون أن يتجرؤ أحدهم على قول كلمة حق.
بعد ساعة ونصف الساعة، استطعت الحصول على ثروتي الصغيرة، لا تتجاوز العشرين ألف ليرة، ستذهب جميعها لصالح المديريات التي تتفانى في تقديم خدماتها لي ليل نهار. كان علي أن أمرّ على الفرن لإحضار الخبز. هي “مهمة مستحيلة” أخرى لا تقل صعوبة وشقاء عن سابقتها. سلسلة بشرية أخرى اصطفت لكن بعدد أكبر هذه المرة، أحيانا تشعر أن اللاذقية تحولت إلى بلد الطوابير، الكل يأخذ مكانه وينتظر، بات الانتظار أمراً اعتيادياً لنا، جزءاً من روتين يومنا المحسوب من عمر طويل، لا نعرف كيف سينتهي.
في طابور الخبز كان العراك شبه غائب عن المنتظرين، لكن من سوء الحظ أن عناصر الحاجز الملاصق للمكان الذي نصطف فيه، لم تصلهم مخصصاتهم من الطعام اليومي، كانوا جائعين، لم يعد بإمكانهم الانتظار. أرسلوا أحدهم بلباسه العسكري وسلاحه الكامل، دون أي استئذان، سبقنا جميعا. أمرنا بالابتعاد عن طريقه وكأننا عساكر في خدمته، ذهب إلى شباك الفرن الذي كنت أقف امامه، كادت فوهة سلاحه ان تدخل في عيني، عاجله البائع بعدد كبير من الربطات دون أن يأخذ ثمنها، نظر العنصر المسلح إلي وقال: “لا يهم، فاليوم عيد”. كالعادة، لم يعترض أحد.
طريق العودة للمنزل لم تكن مفروشة بالورود. سلسلة سيارات وميكروباصات اصطفت خلف بعضها البعض بانتظار اصطياد صاحب الحظ العاثر من راكبيها. تفتيش أكياس الخضار وأخذ حصص صغيرة منها، أخّر عبورنا بشكل كبير. إحدى السيدات كانت تحمل كيساً من الألبسة الرجالية، قال لها أحد العناصر ممازحا: “سآخذ منها قميصا للعيد”، اضطرت للقبول، لم يكن لديها حل آخر.
لم يأت وقت المساء إلّا وكنت قد وصلت إلى الرمق الاخير. الحرّ وانقطاع التيار الكهربائي دفعاني للهروب خارج البيت. لم أكن الوحيدة، المئات غيري اتخذوا هذا القرار، وانتشروا على مقاعد وأرصفة الكورنيش الغربي، بحثا عن نسمات عليلة تطفئ بعضا من قيظهم، نسمات أتت ثقيلة مشبعة بالرطوبة، تشبه الحال الذي نعيش فيه.
كنت أسير وحدي، اتخذت من بداية الكورنيش نقطة انطلاق لنزهتي الليلية. بعد أمتار قليلة من السير، بدأت ألاحظ حركة مريبة. اناس كثر تجمعوا أمام نادي الضباط، الأغاني الوطنية تصدح في الأجواء، أعلام وهتافات تعلو توجه تحياتها للقائد وتعده بالوقوف معه إلى الأبد. رجال ونساء وأطفال أمسكوا بأيدي بعضهم البعض، واصطفوا على طول الكورنيش يحيّون السيارات التي تمر، ليرد الركاب لهم التحية رافعين إشارة النصر، وقفت لآخذ استراحة من المشي، فالرطوبة جعلت نفسي ثقيلاً. اقتربت من إحدى السيدات الواقفات قربي، سألتها عمّا يفعله هؤلاء الناس؟
“إنها سلسلة بشرية”، أجابتني السيدة دون أن تنظر في وجهي. سلسلة بشرية أخرى، ما حكاية السلاسل في هذه المدينة؟
إحدى المتطوعات المتحمسات اقتربت مني. هي تمسك صورة “القائد” وترفع علماً صغيراً، أعطتني إياه دون أن تسألني إن كنت أرغب بحمله أم لا. لم يبق أمامي الخيار، سألتها عن التجمع وهذه “السلسلة البشرية” التي لا تنتظر وصول الدور لشراء حاجة ما، أو البحث عن إسم ضمن قوائم “التفتيش” على الحواجز. ردّت علي باستغراب ودهشة “ألا تعلمين؟ إنه عيد الجيش. وهذه السلسلة البشرية هي تحية تقدير من الشعب لتضحيات بواسلنا التي لا تقدر بثمن”.
بانة ديب من مواليد اللاذقية حيث تعيش حتى الآن. خريجة جامعة دمشق. تطمح للعمل بمشروع تربوي هادف يؤسس لبناء جيل سوري متعلم بشكل حقيقي.