ذوو الاحتياجات الخاصة في الرقة بلا عناية خاصة
عبد الكريم جعفر
(الرقة، سوريا) – يقضي علي (15عاماً) معظم وقته أمام التلفاز. تطلب منه والدته الخروج إلى الشارع لكنه يصرخ قائلاً: “لا أريد، لا أحد من صبية الحارة يحس بي”.
علي لا يستطيع مشاهدة التلفاز لكنه يأنس بصوته، ويعتبره الصديق الوحيد بعد إغلاق “جمعية المكفوفين” في الرقة، كبقية جمعيات ومعاهد ذوي الاحتياجات الخاصة، بعد سيطرة المعارضة المسلحة على المدينة في 4 آذار/ مارس 2013، والذي أعقبه قصف عنيف من الجيش النظامي أدى إلى مغادرة معظم السكان وتوقف الحياة في المدينة لعدة أيام. وكانت تلك المعاهد والجمعيات تغطي حالات الصم والبكم والمكفوفين، وتوفر الدراسة من مرحلة التحضيري حتى الشهادة الثانوية ومنها: “جمعية المكفوفين”، و”جمعية الرجاء للإعاقة السمعية”، و”معهد الإعاقة السمعية بالرقة”.
ويضاف إليها جمعية “الإعاقة والتأهيل” وهي تعنى بشؤون الإعاقات الجسدية ومتلازمة داون، لكن فاعليتها أقل ولا تتضمن مناهج دراسية.
يبلغ عدد جمعيات ذوي الاحتياجات الخاصة في عموم سوريا 18 جمعية، في حين كانت نسبة من يحتاجون لعناية خاصة قبل اندلاع الأحداث في سبعة في المئة وفق نائب رئيس اتحاد المنظمات غير الحكومية في سوريا ياسر نجار، و أكد نجار أن النسبة حالياً “قد تضاعفت عدة مرات”.
تقول أمينة سر “جمعية الرجاء للإعاقة السمعية” ندوة السلوم: “كنا نستقبل في الجمعية حوالي 80 حالة سنوياً من مرحلة التحضيري بعمر خمس سنوات حتى الصف الخامس، ثم كانوا ينتقلون إلى معهد الإعاقة السمعية ليستكملوا تعليمهم حتى الصف التاسع”. ويتقدم الطلاب الصمّ إلى الشهادة الثانوية بشكل حر على عكس المكفوفين الذين يدرسون في الجمعية حتى نيل الشهادة الثانوية.
والد علي ويدعى أحمد العبدالله يقول، وقد بدا عليه الأسى، إن ابنه كان اجتماعياً أكثر عندما كان يدرس في الجمعية وقد طور مهاراته السمعية واللمسية “بشكل ملحوظ”. تقدم علي إلى شهادة التاسع هذه السنة ونالها بسهولة، وفق امتحانات أجراها “اتحاد المعلمين الأحرار“، رغم انقطاعه عن الدراسة لأشهر، و”هذا دليل على تقدمه من خلال الجمعية” كما تقول إحدى مدرساته.
ولأحمد العبدالله ولد آخر يدعى حسن (34 عاماً) وهو أستاذ في مادة اللغة العربية وهو ضريرٌ أيضاً، “يلعب دوراً أساسياً في توعية أخيه علي والتخفيف عنه، كما أنه القدوة الصالحة كشخص تجاوز إعاقته واختلط بمجتمعه ونجح في ذلك”، وفق ما أشار الوالد.
بالإضافة إلى تدريس المناهج، تعمل جمعيات ذوي الاحتياجات الخاصة على الترفيه عن طلابها عبر إقامة المسرحيات ودورات الكمبيوتر وغيرها لجعلهم “يتجاوزون إعاقتهم” كما تقول خديجة (28 عاماً) إحدى المدرسات في جمعية المكفوفين. وكان نزار الأحمد وهو فنان نحت قد عمل على إدخال تقنية “الإبصار عند المكفوفين” إلى الجمعية حيث يعمل كمتطوع. ويقول الأحمد واصفاً التقنية بأنها “كانت تخرج المكفوفين من الظلام الذي يعيشونه، وتجعلهم يعتمدون على أنفسهم أكثر”.
يذكر أن تقنية “الإبصار عند المكفوفين” فكرة أوروبية الأصل تعتمد على جعل المكفوفين يرسمون أشكالاً بالمعجون يتدخل الأساتذة فقط في اختيار الألوان.
رئيس الجمعية الخيرية لرعاية المكفوفين في الرقة يوسف الشيخان “أبو شهد” يرد سبب توقف العمل في معظم معاهد وجمعيات ذوي الاحتياجات الخاصة إلى التمويل، حيث أن جميع تلك الجمعيات عدا “معهد الإعاقة السمعية” التابع لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل هي “جمعيات أهلية تعتمد على المعونات بشكل مباشر”.
تجدر الإشارة إلى ان الكثير من المعدات لا تزال في بعض المباني التي يسيطر عليها “الجيش الحر” في مدينة الرقة كالمركز الثقافي و”معهد الإعاقة السمعية” بحسب ما ذكر عدة مسؤولين من جمعيات ذوي الاحتياجات الخاصة.
يقول قائد لواء “الناصر صلاح الدين” التابع للـ”فرقة 11″ في “الجيش الحر” أبو محمد النشمي بثقة يشوبها الابتسام: “نحن مستعدون لإفراغ معهد “الإعاقة السمعية” عندما تقرر إدارته العودة إليه، بل وندعمه مادياً، ونؤمن الحراسة للمقر”. وقد ذكر أنهم عرضوا ذلك على إدارة المعهد منذ مدة ولكن “الإدارة كانت تماطل” على حد تعبيره. لكن لم نستطع الاتصال مع أحد من إدارة المعهد بسبب سفر المدير ونوابه.
رئيس المجلس المحلي طه السيد طه يعد بالعمل على إعادة تفعيل جمعيات ذوي الاحتياجات الخاصة إنما “وفق الأولويات من صحة وسلامة عامة وخدمات…” ولكن ورغم مرور أسابيع عدة على مباشرة المجلس المحلي لعمله فهو لم يحرك ساكناً.
وفي خطوة تدعو للتفاؤل أعلن “تجمع أبناء الرشيد الخيري” ووفق رئيسه مازن الشعيب عن استعداده لتفعيل جمعية الرجاء للإعاقة السمعية بعد إعادة تسميتها “مدرسة الرشيد للإعاقة السمعية”، يقول الشعيب: “تواصلت مع مدير جمعية الرجاء واتفقنا على إعادة تفعيل الجمعية، وتغيير اسمها، لكن نحتاج لبعض الوقت”.
لم يؤدِّ إغلاقُ جمعيات “ذوي الاحتياجات الخاصة” إلى قطع التواصلَ بين الطلاب في ما بينهم ومع المدرسين، “حتى بعد إغلاق الجمعية، لا زلت أتواصل مع معظم طلابي عبر الهاتف وخلال الزيارات” قالت خديجة وهي تمسك بيد “سعدة” إحدى المكفوفات، ذات الـ19 عاماً، التي أخذت شهادة “البكالوريا” رغم التحاقها المتأخر بالجمعية.
سعدة كل يومٍ تفتح ملفاتها المكتوبة بطريقة “بريل” ( طريقة كتابة نافرة خاصة للمكفوفين) كي تتذكر بعضاً من “اللحظات الجميلة” التي لا تزال تحن إليها على حد وصفها.
بعكس اختها تركية (13 عاماً) الضريرة أيضاً، التي انطوت على نفسها ولم تعد تتكلم كثيراً مع أحد منذ إغلاق الجمعية، لا بل تجيب “بعصبية غير مسبوقة” كما تقول سعدة.
يطور المعاقون بصرياً وسمعياً وجسدياً من مهاراتهم عن طريق تفعيل باقي حواسهم بشكل أكبر وفق بعض أساتذتهم. لكن وفي ظل إغلاق المعاهد والجمعيات المعنية بهم “لا يستطيع البيت أن يحل محل المعهد حتى لو كانت الأسرة واعية ومتفهمة، ولكن الرمد يبقى أفضل من العمى” هذا ما عبر به الأخصائي النفسي الدكتور جمال الحمود. كان الحمود بصدد فتح معهد لمرضى التوحد، ولكن لم يتمكن بسبب “سيطرة المعارضة على المدينة، التي أدت لغياب الكادر وقلة التواصل مع وزارة الشؤون الاجتماعية”، كما قال.
ربما يحتاج علي لعناية خاصة بعد إغلاق جمعية المكفوفين، ولكن هناك الكثير من أقرانه ليس من أخٍ يعينهم، ويخفف عنهم كما حاله هو.