حدث أثناء اعتقالي
ملاحظة من فريق التحرير: يروي الكاتب في القصة التالية تجربته أثناء اعتقاله في العام 2012، ويعرض موقع” دماسكوس بيورو” هذه القصة بهدف إعطاء الناشطين السياسيين نصائح حول كيفية التصرف في حال تعرضهم للاعتقال.
“- من أين أنت؟”
“- من السويداء”
“- ودوما يا…”
وانهال عليّ بالضرب المبرح.
لكثرة ما كرر السجان اسم “دوما” أثناء ضربي أيقنت أنه ثمة تشابه بالأسماء أصاب المناطق هذه المرة، وأن السجان لا يستطيع التمييز بين دوما الشام، التي تعد معقلاً للمعارضة، ودوما الواقعة خارج خط المطر (حيث يسجل شح في تساقط الأمطار) في أقصى شرق محافظة السويداء.
كان ذلك ما يسمى بـ”حفلة الاستقبال” التي يتم فيها ضرب السجين بشدة قبل تسجيل بياناته الشخصية لحظة دخوله المعتقل. قبل ذلك بيوم واحد تم اعتقالي صباحاً عند الحدود السورية أثناء سفري إلى لبنان بتاريخ العاشر من حزيران/ يونيو 2012. تم نقلنا مساءً من سجن الجمارك إلى فرع الأمن الجنائي، الذي تولى بدوره تسليمنا للأمن السياسي بعد قضائنا ليلة في سجنه المليء بالمحكومين الجنائيين.
خضت “حفلة الاستقبال” في الأمن السياسي برفقة شاب تعرض للضرب المبرح حتى تضرج بدمائه كونه من كفرنبل، كان واضحاً أن التعامل مع الموقوفين يتم بشكل مناطقي وحسب انتمائهم الطائفي.
صراخي تحت الضرب ومحاولتي قول أن دوما تلك ليست دوما الشام أثار انتباه سجان آخر، جاء وخلصني من التعذيب واصطحبني لأكمل تسجيل بياناتي الشخصية.
وعندما قادني إلى الزنزانة استغل الفرصة ليقول لي: “انتبه وكون قد حالك ما في شي مثبت عليك، تهمتك تظاهر”.
تلك اللحظة زال نصف همي وتبدد أكثر الضغط النفسي الذي أعيش، أيقنت بعدها نقطتين هامتين، الأولى أن ليس كل من يعملون في الفروع الأمنية سيئين، والثانية أن المعتقل يعيش لحظة ضعف خطيرة، فلمجرد القبض عليه يتعامل نفسياً مع ذاته من منطلق المذنب، ويظن أن الأمن يعرف عنه كل شيء وأن المحقق قادر حتى على قراءة أفكاره التي يخفيها. فيعود ليتذكر جميع النشاطات والأحداث التي حدثت معه، هذا ما يساعد على انهياره سريعاً أثناء التحقيق، والاعتراف نتيجة الضغط النفسي بأشياء فعلها وربما أشياء لم يفعلها، بهدف الخلاص من التحقيق سريعاً.
كانت الزنزانة تغص بالمعتقلين، جميعهم أبدى اهتمامه بي، لكن الثقة بالأشخاص تفرض نفسها من خلال معرفة المدة التي قضاها كل منهم في الزنزانة. أول الأسئلة التي تلي التعارف يكون الاستفسار عن مدة الاعتقال، وبرأيي من السهل اكتشاف وجود مندسين بين السجناء من قبل الأمن، لهذا لا يجب الوثوق الفوري بالأشخاص والاكتفاء بالإنصات لقصص المعتقلين أكثر من الكلام. سرعان ما توطدت معرفتي بشاب من درعا اسمه محمد اعتقل قبل خمسين يوماً، عمل على تخفيف آلام التعذيب والاهتمام بي، وأخذ يحدثني بشكل منفرد عن تجارب معتقلين وكيفية التصرف في حالات معينة، أهمها عند سؤال الأمن عن أسماء منسقي الحراك الثوري. نصحني بالاعتراف بأسماء شهداء فيما لو أصر الأمن على انتزاع معلومات مني كي لا تلحق إفادتي ضرراً بأحد على قيد الحياة.
صباح اليوم التالي اقتادوني إلى التحقيق، كنت معصوب العينين ومكبلاً، حاولت استجماع أقصى طاقات التركيز والاستفادة من توجيهات محمد، وباقي حالات الاعتقال التي عرفتها، خصوصاً أن لدي صديق سبق أن كان متطوعاً في سلك القوى الأمنية واعتقل مع بداية الثورة، سبق أن حدثني بملاحظات لا بد من الاستفادة منها أثناء الاعتقال، أهمها الحفاظ على التركيز من خلال استجماع القدرات العقلية، وعدم التعاطي بندية مع المحقق كي لا يثار غضبه، وأن المحقق هدفه هو انتزاع الاعترافات لذلك لا بد من الاعتراف بأشياء لا تضر بأحد لكنها حقيقية في نفس الوقت.
حرصت على أن تكون أنفاسي طويلة ومنتظمة، وهذا يمكن تحقيقه من خلال القيام بعملية شهيق وزفير هادئة تساعد على الاسترخاء، ويسهل تنفيذها من خلال العد حتى الرقم خمسة أثناء القيام بالشهيق وتكرار المحاولة في الزفير، ومن المفيد قبل التحقيق محاولة تذكر موسيقى أو لحن أغنية هادئة وتكرارها، ومن المهم أيضاً تحريك أصابع كل من اليدين بشكل منفصل، وإذا أمكن على إيقاع لحن ما تلك التمارين تسمى “فصل الحواس” ذلك من شأنه تخفيف حالة التوتر لدى المعتقل قبل التحقيق وأثنائه.
تعمدت أن تكون إجاباتي سريعة وواضحة حتى توحي بالصدق، والابتعاد عن الاعترافات المرتبكة التي تحمل تناقضاً بالكلام. لم أحاول تكذيب أي فكرة يقولها المحقق فهذا من شأنه أن يكون استفزازاً له، واستعنت بكلمات “ممكن”، “معك حق”، “ربما”، “أظن” وغيرها من الكلمات التي لا توحي بحالة من الجدل.
شيء ما جعل المحقق يدرك أن التقرير المرفوع يهدف للأذى الشخصي أكثر من كونه يحمل معلومات مفيدة.
طلب المحقق من أحد العناصر أن يخلع عني عصابة العينين، وتابع التحقيق. كنت أنظر إلى عينيه كلما كان علي الكلام، فحين تنظر إلى عيني الشخص عند حديثك معه تبعث الثقة بكلامك ويساهم في تصديقه لك.
ولمعرفتي أنّ المحقق في النهاية يريد اعترافات بأي شكل قمت بالاعتراف فوراً على تظاهرتين شاركت فيهما فور سؤاله. اخترت تاريخ لتظاهرات تعود إلى زمن مبكر من الثورة وتم شملهما بقرار عفو صدر بعد ذلك التاريخ، وهذا كان أيضاً من توصيات محمد، فهنا الحكم سيكون ساقط بفعل العفو.
عللت عدم مشاركتي بتظاهرات بعدها لأسباب تتعلق بتحول الثورة إلى التسلح، وعند سؤاله عن وجهة نظري بالأحداث، قلت إن التسلح ووقوف السوريين بمواجهة بعضهم البعض سيدمر البلد، لذلك قررت العيش كأي مواطن لديه تحفظاته على الفساد لكني لست مع هذه الطريقة في الحل.
نقلت بعد التحقيق إلى زنزانة جديدة قضيت فيها أسبوعاً، ولمعرفتي أن الأمن يدس عناصره في الزنازين كنت قليل الكلام. كنا نحسب الوقت من خلال مواعيد الطعام وأماكن سقوط الشمس على علامات حفرت على جدار الزنزانة.
وخلافاً لحياتي العادية بدأت بممارسة الرياضة، كلما سمح لي ضيق المكان، حتى أصاب بالإجهاد وأتمكن من النوم. نجحت في إقناع بعض المعتقلين بعدم الإضراب عن الطعام استنادا ً لتجربة رياض الترك، الذي ينصح بذلك بهدف البقاء بحالة جيدة من التركيز خاصة لمن سيتعرض للتحقيق.
في اليوم العاشر تم عرضي على القاضي في دمشق وأطلق سراحي، لكني لا زلت أذكر أخر جملة قالها لي ذلك السجان الطيب: “اذهب وإياك أن تعود إلى هنا مجدداً”.