العشوائيات مكان مميز للمظاهرات
رفض مدير ناحية كفر بطنا في ريف دمشق التعميم الذي وصله من محافظ ريف دمشق السابق لهدم كافة مخالفات البناء الحاصلة منذ ثمان أشهر في بلدة كفربطنا وسقبا وحمورية وعين ترما، ورد التعميم قائلاً: “ليأتي الشخص الذي أصدر القرار بقوة الشرطة ويهدم بيديه”. ما فعله مدير الناحية مشابه لما فعله الكثير من المدراء ومسؤولي أقسام الشرطة في كافة النواحي والمناطق المحيطة لمدينة دمشق خوفاً من الغضب الشعبي في هذه الدوائر.
يشمل محيط محافظة دمشق أكبر تجمع للسكن العشوائي في سورية، ويُقصد بذلك بناء مخالف، شُيد بدون موافقة ويتواجد خارج المخطط التنظيمي للمدينة. ساكنو هذه المناطق يتوزعون بين الموظفين الحكوميين وذوي الأعمال الحرة البسيطة، وقد لجؤوا إليها لعدم قدرتهم المالية على التملك أو الإيجار في مناطق نظامية. وفي دراسة قام بها أياس الدايري معاون المدير العام للمؤسسة العامة للإسكان عام 2007 فإن القاطنين في مناطق السكن العشوائي يشكلون 30- 40% من سكان المدن الرئيسة في سورية. ومع دخول الأزمة في البلاد شهرها التاسع من المتوقع أن تكون هذه الظاهرة قد توسعت نتيجة انخفاض رقابة البلديات والخوف من السكان القاطنين في هذه المناطق، كما يشير مثال تعامل مدير ناحية كفر بطنا مع قرارهدم بعض المخالفات.
ارتبطت الاحتجاجات الشعبية في دمشق وريفها بأسماء العديد من المناطق العشوائية، مثل الميدان والقدم وبعض مناطق ركن الدين ودوما وسقبا وحمورية وكفربطنا والمعضمية وداريا. خرج الناس يطالبون بالحرية وبحياة اقتصادية عادلة ورفع الجور الأمني عن ساكنيها.
أبو مازن وهو متقاعد من سلك الشرطة يقول: “ما يحصل في هذه المناطق غريب جدا.ً فالتهميش الكامل لهذه المناطق خلق ردة فعل لدى الناس فبدؤوا يخرجون محتجين على النظام، وبالمقابل خرج البعض الآخر مدافعاً عنه، فنجد أن التظاهرات والمسيرات تخرج من نفس المناطق تقريباً وتتصادم في الكثير من الأوقات ليتضارب أهلها فيما بينهم، فالعشوائيات تحولت إلى مستودع كبير يضم كل الأطراف”.
“نحن نخرج لتتحسن أوضاعنا، فإلى متى سنبقى هنا في هذا القاع”، يقول محمد خريج كلية الآداب قسم اللغة الإنكليزية وعاطل عن العمل حالياً: “سنخرج كل يوم، فالحكومة لا ترى مناطقنا أبداً ولا تفكر فينا، كيف لا نخرج ونحن نرى التهميش المتعمد”.
ويرى الضابط المتقاعد أبو محمد والذي يبلغ السبعين من عمره أن العشوائيات تحولت إلى لعنة بالنسبة للنظام الحالي، وذلك نتيجة تقاعص حكومات نظام الأسد المتعاقبة عن حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية العالقة منذ عقود. ويعترف الشاب علي الذي ينخرط في العمل كأحد أعضاء “الشبيحة” أن المنطقة التي يقطن فيها تغيب عنها الخدمات الحكومية بشكل كامل تقريباً، إلا أنه ما زال يؤمن بحل ما في ظل هذا النظام: “عندما نخرج لنفرق التظاهرات، لدينا إيمان أن الإصلاح سيتم بإيدي الأسد وليس بغيره لانه إبن هذا المجتمع، إضافة للأموال التي نتقاضاها يومياً بعد فترة من البطالة الطويلة”.
تضم العشوائيات المحيطة بدمشق مزيجاً سكانياً متنوعاً، حتى أن الحارة الصغيرة يسكنها الحلبي والحموي واللاذقاني وغيره من المناطق السورية. يشترك أهالي العشوائيات بصراعهم اليومي من أجل تأمين الخدمات الأساسية مثل توفير المياه وإيجاد حل للانقطاع المستمر للكهرباء والبينة التحتية الغائبة للصرف الصحي، يضاف إلى ذلك إزعاجات رجال الأمن والشرطة وموظفي البلدية.
أبو قصي الذي قدم من اللاذقية ويبلغ عمره 70 عاماً يقول: “منذ أن أتينا إلى دمشق ونحن نقطن في هذه المناطق، ولم نشهد أي مشكلة من المشكلات العنيفة بإستثناء طيش بعض الشباب طبعاً، دائماً كنا نعيش بحب ووئام مع الجميع. ما يحصل هذه الأيام يجعلنا نفكر ملياً بأنه أين كان كل ذلك مخبأ؟” ويرى أبو قصي أن التظاهرات التي تخرج من حيه وتريد إسقاط النظام ردة فعل طبيعية لأشخاص عاشوا طوال حياتهم “بشكل عشوائي كحجارة بيوتهم هذه”، وحتى “الشبيحة” الخارجون من هذه المناطق، يصفهم كردة فعل طبيعية أيضاً نتيجة نقص وعيهم: “زيادة فقرهم جعلهم يقومون بهذا العمل”.
وأدى ازدياد البناء العشوائي في الأشهر الماضية إلى إرتفاع ملحوظ في أسعار مواد البناء والتي زادت بنسبة الـ 100 % عن الفترة التي سبقت الاحتجاجات، وفقاً لأحد عمال البناء المختص بالمناطق العشوائية: “سوق المواد يصعد بجنون، كنا بالأمس نطلب طناً من الإسمنت أو الحديد بسعر يعادل نص السعر الحالي، وهذا وما جعل أجورنا مضاعفة في هذه الفترة”.
وأثرت حركة البناء على أسعارالأراضي الزراعية أيضاً التي ارتفعت بنسبة ثلاثة أو أربعة أضعاف سعرها المعتاد إضافة إلى إرتفاع سعر المتر المبني على الهيكل، رغم ما تشهده حالة البيع والشراء في باقي المناطق من جمود. يقول شادي وهو محكم عقاري في المحاكم السورية: “أسعار الشقق السكنية تبلغ اليوم نحو 3 أضعاف أسعار العام الماضي نتيجة توجه التجار إلى تشييد الأبنية السكنية على الأراض الزراعية والتي ارتفعت أيضاً 3 أضعاف عن سعر دونم الأرض في الأوقات ما قبل الأزمة” مضيفاً أن سعر متر الأرض الزراعية ارتفع من 10 آلاف ليرة (200 دولار تقريباً) إلى 30 ألف ليرة (600 دولار)، فيما ارتفع سعر المتر المربع للسكن على الهيكل من 12 ألف (250 دولار) تقريبا إلى ما يزيد عن 16 ألف ليرة (350 دولار): “وسبب ذلك زيادة الطلب في هذه المناطق”.
العشوائيات في دمشق وريفها قصص لا تنتهي. طرحت الحكومة عشرات المرات مخططاً تنظيمياً لها، لكن ما يوقفها حسب أحد مهندسي المحافظة هو الفساد: “فالفائدة التي يجنيها الكثير من المدراء وأعضاء المكتب التنفيذي من وجود العشوائيات لا تقدر بثمن، لذا المحافظة عليها ومحاولة إلغاء أي محاولة لإصلاحها تدر على هؤلاء الأشخاص ملايين الليرات السورية من خلال مد شبكات ماء وكهرباء وهاتف كل عام بحجة سرقتها أو تخريبها من قبل الأهالي عدا عن خدمات التزفيت وغيرها من البنية التحتية التي تختلف مع الأرقام التي تسجل في الدفاتر”. ويصف المهندس العشوائيات في سورية بمنبع من الذهب لبعض المسؤولين فقط!