الحلم لم يكن سوى مظاهرة!
مشاركة النساء في مظاهرة تطالب فصائل الجيش السوري بالتوحد. صور من حلب بعدسة: مجاهد أبو الجود
لم يكن هنالك من فكرة تسيطر على تفكيري، كفكرة الخروج في مظاهرة. طيلة العام 2010 كنت عاجزة عن تخيل المشهد. حتى ولو كان الحديث عن امكانية خروج عشرات الأشخاص إلى الشارع مطالبين بمطلب وإن يكن صغيرا.
كان الوضع العام سيئاً للغاية، فقد كانت الاستدعاءات الأمنية تطال الكثيرين، لأسباب تبدو اليوم تافهة، ولا تستدعي التفاتة من أصغر عنصر أمن.
اللقاءات كانت تعقد على درجة عالية من السرية، حتى ولو كان اللقاء يتضمن مناقشة قانون الأحوال الشخصية أو عمالة الأطفال. كنا نرمز زمان ومكان اللقاء خوفا من تتبع أجهزة الأمن السوري لنا.
في تلك اللقاءات غالبا ما يكون الحاضر الأبرز هو اليأس من الوضع العام الذي وصلت إليه البلاد، والخوف، والقلق الذي دفعنا واحدا تلو الآخر للتفكير في جدوى الاستمرار في عمل محفوف بالمخاطر كناشطين أو صحفيين في بلد يعاني من انعدام الحريات كسوريا.
الحلم لم يكن سوى مظاهرة!
حالة الانسداد التي وصلت إليها البلاد على جميع الأصعدة كانت تقودنا بالضرورة إلى التفكير في مبادرات تخرج إلى الشارع، فكانت” تيشرت”!
المبادرة التي تبنتها صديقتي ملك الشنواني بكتابة عبارة “أنا ضد جرائم الشرف” على “تيشرت” ترتديه يوميا خلال ذهابها الى عملها. وجرائم الشرف هي كل جريمة يعفى مرتكبها من عقوبتها بدعوى ارتكابها دفاعا عن شرف العائلة، وهو ما ينص عليه صراحة قانون العقوبات السوري.
ملك التي أسرتني بشجاعتها وشخصيتها الجريئة. المثقفة التي تعرفت عليها في احدى اللقاءات التي نظمها في منزله الصحفي كمال شيخو فأصبحنا صديقتين مذ ذلك الحين. لم أتأخر عن الالتحاق بملك في مبادرتها. وطبعت العبارة على تيشرت ارتديته للذهاب إلى عملي في مديرية التعليم الزراعي بالسبع بحرات وسط العاصمة دمشق.
كنت أرى نظرات الاستغراب في عيون المارة، ونظرات الاستهجان لدى البعض الآخر، ولمرات عديدة تعرضت للشتم والسب بسبب العبارة، فلم يكن من ذلك إلا أن زادني إصراراً، فهذه هي العقلية المتخلفة التي كنت أريد الاصطدام معها وتعريتها.
كانت مبادرة “تيشرت” تدريبا عمليا نموذجيا لي، أنا التي ولدت في بيئة موالية، وعندما كبرت وجدت نفسي في بيئة معارضة!
بين العام 2002 حين كنت طالبة في كلية الزراعة بجامعة تشرين في اللاذقية، وعام 2010 حين أصبحت موظفة في وزارة الزراعة السورية في دمشق، كنت أسكن هناك بمفردي، وأعود زائرة منزل أهلي كل أسبوع.
واظبت على نشر قصصي الساخرة في منشورات حزب الشعب الديمقراطي السوري، ومنشورات اعلان دمشق للتغيير الديمقراطي، وكنت أغلفها بالصحف الرسمية السورية وأخبئها تحت سريري.
في منزل أهلي لا مكان الا لقنوات الحكومة السورية ولقناة المنار الناطقة بلسان حزب الله اللبناني، وعلي أن أتابع هذا الاعلام الكاذب الفاسد دون أن أعترض، وربما ولهذا السبب كانت القصة الساخرة هروبا واعتراضا وتنفسا ضروريا لتفادي الاختناق!
كانت معظم قيادات اعلان دمشق ورموز المعارضة السورية في السجون، وكانت الاستدعاءات الأمنية قد دفعت معظم من أعرفهم من الكتاب والصحفيين للهجرة واللجوء، أو للتفكير جديا بجدوى البقاء على أقل تقدير.
بعض أصدقائي الممنوعين من السفر غادروا البلاد بشكل غير شرعي، وكان كل ذلك يزيد من قتامة المشهد بالنسبة لي.
سيناريوهات عديدة كنت أحلم بها مع من بقي من أصدقائي، لو أن كل واحد منا يواعد أكثر شخص يثق فيه، وهذا بدوره يخبر أكثر شخص يثق به، تكبر المتوالية في الفراغ وتصل التقديرات إلى آلاف، وننظر من الشباك خائفين على فكرتنا، ففي كل زاوية ومنعطف وحائط يسكن شبح أسود كفيل بالانقضاض عليها في أقل من ثانية وتمزيقها.
عندما لاحت ثورة تونس ومصر من بعدها، نزلت للاعتصام متضامنة مع حق الشعوب في تقرير مصيرها، أضاء كل منا شمعة، وأمام سفارة ليبيا كان هجوم الأمن السوري علينا، مستنكراً تضامننا مع شعب يقتله بعنف طاغية. وانطفأت كل الشموع تحت وقع ضرباتهم.
على نور خافت لا نعلم مصدره كان ثمة من أنشأ صفحة “يوم الغضب السوري” في الخامس عشر من شباط/فبراير من العام 2011، يومها نزلت إلى الشوارع أبحث عن الغاضبين فلم أجد أحدا!
في المساء كانت تصلني رسائل من أشخاص لا أعرفهم عن تجمع لعدد من الأشخاص في هذا الشارع أو ذاك، فأستقل أول تكسي لأرى، فلا أجد شيئا!
حتى كان 15 آذار/مارس، كان الصوت في الأموي لعشرات السوريين الصوت الذي لطالما انتظرته، صوت الحلم يناديني: “الله، سوريا، حرية وبس!”
هنادي زحلوط، صحفية وكاتبة سورية، من مدينة اللاذقية سوريا، وتعيش حالياً في جنوب فرنسا، عملت كناشطة نسوية لسنوات في سوريا قبل أن تعتقل.