الأمل
أصبحت موظفة حكومية. وهذا حدث جلل، وإن لم يكن بالمستبعد، إذ أنني فتاة مجتهدة، ولطالما كنت متفوقة.
بدأت الثورة في العام 2011، وبدأت معها المسيرات. كنت في بداية الأمر أشعر بالارتباك تجاه ما يحدث. لم أستطع أن أقدم أي تفسير أو سبب. بدأت بعدها تنتشر عبارات من نوع “الأسد أو لا أحد”. عبارات أوصلتني إلى خلافات بلغت حد القطيعة مع الكثير من معارفي وأهلي.
منهم من سخر منّي، ونصحني بأن أنشئ حزباً لحماية أفكاري، فمن المؤسف أن تضيع هذه الأفكار. بعضهم سألني: هل ترشحين نفسك للرئاسة؟ وآخرون تعالوا معي بالتعنيف والترهيب والاتهام بالخيانة العظمى. ترافق كل هذا مع مشادات ومشاحنات لا تنتهي.
في البداية لم أنشغل بكلامهم، ولم تكن أحاديثهم تزعجني. كنت أعود مساءً من يومي الطويل، لأتحدث مع حبيبي الذي كان يأخذ حملاً عنّي، من دون أن يدري بأحلامه التي أصبحت جزءًا من أحلامي.
ما زلت أذكر يوم الاستفتاء على الدستور في 26 شباط/ فبراير 2012، اليوم الذي أتى فيه مراسل القناة السورية إلى مكتبنا، و أصرّ على أن يجري مقابلة معي “بسبب ارتدائي الحجاب “، بعد ترشيح الزملاء لي، فهم توقعوا أنني أدليت بـ “نعم”. قضيت هذا اليوم و أنا أضحك، كلّما تذكرت محاولاتهم اليائسة معي لجعلي أجري المقابلة، وكيف كانوا يكلمونني كل على حدا لإقناعي بأهمية الموضوع كوني محجبة. وأنا أتظاهر بالخجل من الظهور على الشاشة، ولم أجرِ المقابلة. وأضحك أكثر عندما أذكر كيف كنا نفر من المسيرات بالكذب والتسلل كأولاد المدارس.
جاء اليوم الذي أخذوا فيه حلمي منّي، عندما أخبروني أن حبيبي اعتقل. تسمّرت مكاني لبرهة، وتابعت يومي. كنت أذهب إلى عملي كل يوم، وكل تفاصيل حياتي تستفزني. نشرات الأخبار اليومية، البرامج السياسية، وتلك الدينية التي تدعو إلى الإخوة والمحبة والتسامح وطاعة “أولي الأمر منا “. مباهاة بعض زملاء العمل وتصريحاتهم حول “الدعس و المعس”. ولكن أكثر ما يستفزني كان معرض الصور لبشار الاسد الموجود في مكتبي. فلإثبات ولائهم قام زملائي بتعليق الصور على كل الجدران الفارغة وأبواب الخزائن. كانت الصور تحدق بي أينما نظرت. أشعر بها تخنقني وتسحب مني نبضات قلبي. صور في كل مكان، تماثيل وجنود لحراستها.
لم أعد أبالي أن أجامل أحداً أو أسكت كما كان ينصحني حبيبي. أتى رئيس القسم إلى مكتبي وقال لي: “انزلي إلى المسيرة “. أجبته لأول مرة: “لا أريد ذلك، أعتذر”. في اليوم التالي عاتبتني صديقاتي، خوفاً على سلامتي. فحملت كرسيي ونزعت الصور التي تملأ الجدران وقمت بتمزيقها. “مليح هيك؟” سألتهم . فقاموا بجمع القصاصات و إخفاءها.
في اليوم التالي كان تمزيق الصور حديث المكتب. كانوا يحاولون معرفة الجاني. كانت صديقتي تكتم ضحكتها بصعوبة، وأنا أتصنع البراءة وعلامات الاستغراب على وجهي. وددت يومها لو استطعت الصراخ بوجههم والتصريح بما فعلت، ولكن البقية الباقية من عقلي منعتني من ذلك. ولكن هذه البقية لم تساعدني يوم انتخابات رئيس الجمهورية، عندما أعطاني أمين الصندوق ورقة حدد عليها المرشح الفائز “بشار”. قمت بتكوير الورقة ورميتها في النفايات أمامه، وطلبت ورقة سليمة. ما كان منه إلا أن انحنى وأخرجها من القمامة، وقد أصبح لونه أحمر من المفاجأة والعصبية. “هذا لا يجوز يا آنسة”. أخذت ورقة جديدة وخرجت من المركز بدون أن أضعها.
قضيت الأيام التي تلت هذه الحادثة وأنا أنظر إلى إصبعي على أنها إدانة لي، فقد خنت نفسي بذهابي، وخنت كل ما عمل ويعمل لأجله كثيرون. وكل أسماء الشهداء وصورهم الذين أعرفهم ولا اعرفهم تدور في رأسي .
في النهاية لم أعد أحتمل الأفكار التي تتردد في رأسي. أحاول فقط أن أحافظ على الأمل، وإن لم يكن يستند على شيء ملموس. الأمل في أنه في يوم ما ستتحسن الأمور. في يوم ما سيعود حبيبي. في يوم ما سنكون أنا ومن معي قادرين على الحلم.
سما تبلغ من العمر 28 عاماً، تسكن في مدينة اللاذقية. اعتقل الأمن العسكري حبيبها المؤيد للثورة، ولم يتغير موقفها المتضامن مع الثورة، رغم مقتل أخيها العسكري النظامي خلال مواجهات مع إحدى الفصائل المسلحة.